فيلم Blowup لوحة تجريدية كبيرة برؤية سينمائية

"المخرج مايكل أنطونيوني .. تكوينات فاتنة خلابة على مستوى الشاشة"

| البلاد - أسامة الماجد

عندما تشاهد أفلام المخرج الإيطالي مايكل أنطونيوني، يتملك المتفرج إحساسا حيا فعّالا بالمكان المحلي الذي يجري فيه الحدث، وصورا ذات قيمة فنية وتنسيقا دقيقا للأشياء والممثلين، ويعتبر فيلمه "في أعماق الصورة" الحائز على الجائزة الكبرى في مهرجان كان السينمائي عام 1967 والمأخوذ عن عمل أدبي، من أهم الأفلام التي ارتكزت على التوليف وتدفق الأحداث التي تعطى المتفرج مرارا وتكرارا شذرات مجتزأة لحياة ومواقف متلاحقة.

الشخصية الرئيسة في هذا الفيلم الذي تم تصويره في لندن هو الممثل "ديفيد همنجز" الذي يقوم بدور المصور الفوتوغرافي الذي تدور حوله الأحداث في قالب تجريدي. ممثلا يحمل وجها بريئا بلا تعبير، ولا نجد في هذا الوجه إلا هذه العيون المفتوحة التي تلتهم الواقع المرئى التهاما. إنه يقدم لنا الإنسان - العين.

الإنسان الذي تنشط أحاسيسه وتنمو انفعالاته عندما تصطدم عينه بصورة من صور هذا الواقع الخارجي، وهو يقدم في هذه الشخصية عنصر الاغتراب.

اختار أنطونيوني هذه القصة؛ لأنها تدور حول حياة مصور فوتوغرافي، ورغم أن السينما قد قدمت لنا أفلاما عن حياة العلماء والأدباء والفنانين، لكنها لم تفكر يوما أن تقدم أقرب الفنانين إلى عالم السينما، وهو المصور الفوتوغرافي وكأنه يريد عن قصد وعن وعي أن يقدم دراسة للعين بكل إمكانياتها وامتداداتها الفنية والتكنيكية والإنسانية، العين التي تنظر، فترى، فتملك، فتسيطر.

واختار في شجاعة نادرة أن يقدم لنا في فيلمه هذا الفراغ الذي يمتد داخل إنسان العصر الحديث، وبالدرجة الأولى داخل إنسان الحضارة الغربية التي تحتضر. وهذا الموت الذي يزحف على روح هذه الحضارة وعلى قلبها وعلى عقلها وعلى مظاهرها فيما وراء عين الإنسان وعين الكاميرا، وكأنه يخطو خطوة جديدة في طريق الرؤية السينمائية.

في هذا الفيلم يستخدم المخرج اللون لتقديم أحداثه وشرحها، الرمادي والأبيض والأسود، ولكن يبدأ اللون يخرج من هذا الحياد البارد، كما يبدأ توماس "البطل" يخرج من سلبيته وعزلته، وهذا عندما يدخل لون جديد هو اللون الأخضر في حديقة عامة من حدائق لندن، وفي هذه الحديقة يرى من بعيد عاشقين ويأخذ في حماسة ونشاط في التقاط صور لهما ويعود إلى البيت والأستوديو، وعندما يكبر هذه الصور يكتشف أن هذا اللون الأخضر الجميل الهادئ وهذا الموقف الغرامي الذي صوره في جو جميل. هذا اللون الأخضر يخفى في أعماقه جريمة قتل. وهنا يستيقظ توماس من سباته الوجودي ويبدأ في تكوين موقف ووجهة نظر ويلمس هذا الواقع الحي الذي يحيط به، وفي هذه اللحظة يبلغ التصعيد اللوني قمته، ويقوم اللون بدور الديالوج وبدور الإيقاع النغمي. وكأن الفيلم لوحة تجريدية كبيرة تقدم لنا قطاعا في الحضارة الغربية الغاربة بكل عناصرها وكائناتها وبكل مظاهر تدهورها وانحلالها.

جمالية أسلوب أنطونيوني في هذا الفيلم تكمن في ابتكار تكوينات فاتنة خلابة على مستوى الشاشة تجذب انتباهنا إليها، وخلق مزاجا نفسيا ملائما للحوار والموقف التجريدي الدائر، وتزويد خيالنا بالخطوة المفقودة ومضاعفة التشويق، كما في مشهد توماس، وهو على سلم الحديقة ورفضه تسليم " الكاميرا" وأيضا وهو الأهم تركيز انتباه المتفرج على المنطقة الموجودة خارج الشاشة، أي وراء الكاميرا، وهذا التغير في اتجاه الحدث يضاعف من التشويق والإثارة.