جون غبريال بوركمان.. معاناة يائسة بحثًا عن الماهية

"هنريك أبسن.. نتأمّل الحياة أكثر من تقبلها"

| أسامة الماجد

من يقرأ مسرحيات النرويجي " هنريك أبسن" يجد أن مصائر الأفراد ترتبط بواقع الأحداث، وأنه قادر بشكل عجيب على التغلغل في طبيعة العلاقة بين الشخصية والحدث من ناحية، وبين الاثنين والظروف الاجتماعية من ناحية أخرى، ولعليّ كنت محظوظًا عندما أعارني أحد أصدقاء الفن، مسرحية "جون غبريال بوركمان" ورغم أني اطلعت على مجموعة قليلة من أعماله المسرحية كـ"الحب والكوميديا"، و "الأشباح" وغيرها، إلا هذه المسرحية استوقفتني فيها الاستعارة البلاغية للمعاناة اليائسة للأفراد بحثًا عن ماهيتهم في عيون الآخرين. مسرحية "جون غبريال بوركمان" تكشف عن حياة رجل يحلم بالحياة والثراء كوسائل لتحقيق أغراض نبيلة، لقد كانت تسيطر عليه فكرة إمكان التحكم في قوى الأرض الخفية لاستغلالها في خدمة البشرية. والمسرحية تبدأ بزيارة "ايللا" لمنزل "بورکمان" الذي عاد من السجن وأغلق من دونه باب حجرته حتى أمام عائلته وزوجته "جون هيلد" – أخت ايللا – التي كانت تسرف في القسوة عليه وتوجّه كل اهتمامها إلى ابنهما "ايرهارد" وتدعوه إلى أن يعيش حياته كرجل بعد أن ودّع حياة الطفولة. وكان هدف "ايللا" من هذه الزيارة التأثير على "ايرهارد" للخروج من سطوة أمه وتأثيرها عليه. ويعرض لنا أبسن صورة ذلك العملاق "بورکمان" وهو يعيش في حجرته منتظرًا دون جدوى ذلك النداء الذي كان يعتقد أن زملاءه القدامى سوف يوجهونه إليه. لقد ابتعدوا جميعًا عنه إلا هذا الكاتب الصغير "فود فال" الذي يزوره باستمرار لأن "بوركمان"هو الشخص الذي يرضى غروره ويعتبر هذا الهراء الذي يكتبه شعرًا. وربما كان أقوى مشهد في المسرحية ذلك الذي يبدو فيه "بوركمان" وقد تبيّن فجأة الحقيقة المؤلمة التي يعيش فيها وأعلن "لفودفال" عدم حاجته لهرائه الشعري. والفصل الثاني يعرض لنا الخلفية الدرامية للقصة، وهنا نعلم أن "بوركمان "كان يحب "ايللا" قبل زواجه من "جون هيلد"، وأنه ظل مبقيًا على هذا الحب في الوقت الذي رفضت فيه "ايللا" الارتباط برجل آخر غير "بوركمان". وتحاول الأخت "ايللا" أن تهب هذا الرجل المحطّم حياة جديدة، فتخبر العائلة أنه مريض وأنه مقضى عليه بالموت بعد شهور قليلة. ويخرج "بوركمان" في إحدى ليالي الشتاء الباردة وقد ضاقت به الحياة بعد أن حطمت زوجته القاسية حياة الأسرة كلها، ويموت "بوركمان" خارج البيت وسط العاصفة، بعد أن يكون قد فقد كل شيء حوله حتى نفسه. ولا يجد جسد "بوركمان" غير "ايللا" لتضع عليه غطاء الموت، وحين تواجه الأختان بالجسد المسجى لا تجدان إلا حلًّا واحدًا للحياة من جديد، هو أن يتحابا مرة أخرى. قصة جميلة عن الحياة يتفاعل معها وينفعل بها القارئ والمتفرج، وحين ندرس الحوار نشعر أنه يمس الأعماق بصدق وأمانة، ويجعلنا أيضًا نتأمّل الحياة أكثر من تقبلها.