تجارب سينمائية مكبوتة تعبر عن نفسها كصرخة

"فيلم MADEMOISELLE لتوني ريتشاردسون.. سجل للحياة اليومية والخطيئة"

| أسامة الماجد

التجارب الطليعية سواء في عالم التأليف او الإخراج لا تعني بحال من الأحوال التجارب الناشئة، أي التي يتعلم مؤلفوها من خلال أولى خطوات السير في السينما ولكن الطليعة تعني الجدة والطرافة والأعمال التي تبعث الحيرة في نفوس المشاهد، أو بالأحرى السينما التي تعطي أكثر مما تأخذ، وقد تعلمت من أستاذنا أمين صالح فتح الشبابيك على كل التجارب السينمائية وبعضها تجارب مكبوتة تعبر عن نفسها كصرخة ولكن كل شيء في مكانه المضبوط ونغمته السليمة، كما هو الحال في فيلم "mademoiselle " للمخرج الإنجليزي الطليعي " توني ريتشاردسون" الحائز على الاوسكار أفضل فيلم وأفضل إخراج عن فيله "توم جونز" رغم أنه خرج من معطف المسرح والتلفزيون.. الفيلم يروي القصة بوضوح وتركيز عن امرأة مدرسة "الفنانة جين مورو" تفشل في تكوين علاقات مع أهل القرية التي جاءت إليها من العاصمة باريس، وتقرر بعدها الانتقام من الجميع في شكل سجل للحياة اليومية في قرية صغيرة، وتصوير البطلة يعكس باستمرار ما يعانيه المجتمع، من استغلال وخبث، فالبطلة تريد أن تكون كغيرها محبوبة ومعشوقة، ولكن تجابه الصد والرفض وهنا يسيطر عليها شيطان تدمير المعشوق والمحبوب مهما كان، بل وحرق القرية ووضع السم للبهائم. إنها صورة لمفهوم الخطيئة وعلى حياة المرأة الخاطئة الغنية بالأحاسيس والطقوس والتوترات، على حياة الانتقال بكل ما فيها من بؤس وشقاء، والدائرة الجهنمية التي يدخل فيها الانسان ولا يخرج منها أبدا، وإن خرج سيكون مثل الطفح فوق جسد الواقع. وقد نجح ريتشاردسون في أن يوظف مفردات اللغة السينمائية مستخلصا منها أقصى طاقاتها لتجسیم فكر المؤلف جان جينيه الغريب العميق العبثي، بأقل حوار ممكن، إذ عمد إلى إلقاء الخطوط الحادة والتفاصيل الدقيقة التي تميز التكوين الواقعي واستبدالها بخطوط ناعمة ملساء ممتزجة تخفى الخطوط المحددة للأشياء وتفاصيلها، في تناغم قاتم استغل فيه درجات اللون الرمادي، الأمر الذي مكنه من تجسيم جو الحلم الكابوس الشعائري القاتم الذي يتخلل العمل كله. كان هذا واضحا في مشاهد السكوت العديدة ومشاهد الغابة ومشهد الفلاح وهو يحذر mademoiselle من الذهاب الى القرية وخلفه حقل واسع ضاعت تفاصيله حتى ليخيل إليك أنهما اختلطا سويا. كذلك كان هذا واضحا في اللقطات الكبيرة لوجه mademoiselle إذ اختفت التفاصيل الدقيقة التي كان لابد أن تظهر في مثل هذه اللقطات. حقق ريتشاردسون جو الحلم أيضا من خلال الإيقاع البطيء الذي لازم الفيلم من أول مشهد إلى آخر مشهد. وهذا الإيقاع البطيء ضروري جدا ليس فقط لإبراز وتجسيم جو الحلم ولكن لتحقيق التصور العبثي من خلال الفعل الشعائري، فالمؤلف لهذا السبب يطلب تنفيذ الفعل الشعائري في جو قداس يتم في أكبر كاتدرائية في العالم، حتى وإن كانت الأحداث تجرى في أماكن "غير لائقة" في العالم. لذلك فأنت تحس قدرة ريتشاردسون في إشاعة جو القداس الجنائزي في الفيلم من أول مشاهده. المخرج القادم من المسرح" توني ريتشاردسون" وصل في هذا الفيلم إلى قمة في الإخراج، تماسك وتركيز وانتقال سليم وعناية بالتفاصيل، حتى أنه رسم أقدام البطلة جين مورو mademoiselle في لقطة تفصيلية جميلة وهي تحرك دولاب الماء في الغابة من زاوية غير مألوفة كاسرا النمطية والرتابة، واللقطات الطويلة المستمرة للغابة المورقة بغموضها وسحرها، والمضمون العاطفي الذي تمثله، فضلا عن استخدامه طريقة مخرجي الموجة الجديدة في السينما المعاصرة من أمثال آلان رينيه، وفرانسو تروفو، وجون لوك غودار، تلك الطريقة التي تعمد إلى المعنى الذهني فتحوله إلى مدرك حسي بحيث تصبح لغة السينما هي لغة المرئيات والمحسوسات عن طريق تقاطع الصور وتلاحقها. شكرا استاذي أمين صالح على إضاءة الإشارة الحمراء في طريقي، وتعليمي أن الصداقة مع السينما لا غنى عنها للإنسان.