العمل المتطور ورجال “الأعمال” السفلية

| ياسر سليم

غالبت ضحكة كادت تنفجر رغما عني فتفسد مؤتمر العمل العربي المنعقد بالقاهرة نهايات الشهر الماضي، حينما همس من يجلس بجواري في أذني قائلا بجدية: أنا معمول لي عمل بوقف الحال.

أعرفه منذ عقدين تقريباً،  يستثمر في مجال التوظيف، اليوم تتفاقم أزمته مع انفجار ثورة  الذكاء الاصطناعي، التي فرضت حضورها القوي على أجندة المؤتمر.

اعتبر صاحب شركة التوظيف أن الثورة التقنية الجديدة مهددة له في أساس نشاطه، فهي تغني الشركات عن كثير من الموظفين، فمن سيطلب منه توريد عمالة بعد اليوم؟ تساءل بأسى، فيما كان وزير العمل البحريني جميل بن محمد علي حميدان يؤكد للحاضرين أن مشاركة البحرين في المؤتمر تأتي في إطار حرصها الدائم على تعزيز العمل العربى المشترك، والمساهمة في رسم السياسات العامة لمنظمة العمل العربية.

محدثي المتعثر  كان يورد عمالة لرجل أعمال يستثمر في الفندقة، والذي كان بدوره يشغلهم لشهرين تحت التدريب، وفي الثالث يطردهم باعتبار أنهم غير أكفاء، وهكذا، يورد هذا لذاك عمالة يعلم أنهم سيطردون.

المورد مستفيد من رسوم التشغيل التي يدفعونها، والمورد إليه مستفيد من عمالة بغير أجر.

حدث قبل سنوات أن تجمهر عمال فندق رجل الأعمال ـ بقيادة عامل شيوعي ـ أسفل البناية حيث نقيم، مطالبين بمرتباتهم المتأخرة، وكان هو قد انتهى تواً من إقامة "حضرة" في شقته بالبناية استدعى لها سحرة من إحدى الدول العربية الإفريقية، قيل له إنهم ماهرون في استخراج الآثار الفرعونية بتعاويذ مبهمة، ظلوا يتمايلون على دقات الزار والطبول حتى مطلع الفجر، كان المشهد عربياً بامتياز، بمضمونه ورمزيته وجنسيات أبطاله.

لم تفلح الحضرة في استخراج ما كان يحفر له رجل "الأعمال السفلية" لاستخراجه وإنقاذ استثماراته، وأمهلته البنوك مهلة إضافية لدفع متأخرات أقساط القروض، فاعتقد أن الحضرة آتت بعض ثمارها، وذبح عجلاً غمس كفه في دمه، وطبع بها على مدخل البناية، ظلت الكف بأصابعها الدموية الخمسة تواجه العمال وهم يهتفون أمامها مطالبين بمستحقاتهم، التي قالوا إنها تعادل ثمن العجل المذبوح.

انهار نشاط رجل "الأعمال" السفلية المضحي، ودخل صاحب شركة التوظيف في دوامة من الأزمات حتى اليوم، ولا أدري أين العامل الشيوعي ورفاقه اليوم وهم يرون التقنيات تطيح بعشرات الوظائف، وتتسبب في أزمات بطالة عنيفة، لطالما اتهموا المستثمرين والشركات العالمية بأن سببها هو استغلالهم وجشعهم.

لو كان آدم سميث وكارل ماركس ـ منظري فلسفتين للاقتصاد ـ على قيد الحياة، ما وسعهما سوى طرح نظريات مختلفة لحل المعضلة الحالية، غير تلك التي واكبت انفجار الثورة الصناعية الأولى، حينما حلت الآلات محل العمالة التقليدية.

في استراحة بين جلسات المؤتمر، قلت لمحدثي المتعثر إن العمل المعمول له على فخذ نملة، مدفونة في قبر قديم مجهول  ـ كما يعتقد ـ لن يفك سحره إلا سحر مقابل، نظر لي في ابتهال ورجاء يستزيدني، فقلت: "هو سحر آليات الاقتصاد الرقمي"، فأبدى عدم فهم.

أُدرك أن أزمة محدثي ـ كما أزمة رجل أعمال الحضرة السفلية ـ تكمن في اعتماده على الأساليب التقليدية. 

يعتقد أن مجرد استخدام وسائل التواصل وسيطاً في نشر إعلاناته لطلب الموظفين، ثم تقديمهم لطالبي الموظفين، مقابل نسبة، هو منتهى الآمال.

في عالم سريع التطور، لن يجد الجامدون من أصحاب الأعمال والخريجون _ غير المؤهلين _ وظيفة مناسبة. 

في كلمته بالمؤتمر، شدد حميدان على نفس المعنى، مؤكداً ضرورة تطوير أنظمة أسواق العمل وتبادل التجارب والخبرات بين الدول الأعضاء في مجال خلق فرص العمل وتنمية الموارد البشرية، وذلك لما يشكله إدماج وتوظيف الشباب العربي من أهمية وأولوية تسهم في استقرار المجتمعات العربية وتنميتها.

وجاءت كلمات بعض المتحدثين تعليقا على تقرير المدير العام لمنظمة العمل العربية فايز المطيري حول "الاقتصاد الرقمي وقضايا التشغيل"، وتشكلت لجان لمناقشة التحديات المستجدة، مثل الذكاء الاصطناعي وأنماط العمل الجديد، ورقمنة أنظمة الحماية الاجتماعية وحوكمتها.

قارن عقلي تلقائيا بين مشهد الحضرة ـ المنتمي لعصور ما قبل العلم ـ والمشهد المتحضر لاجتماع اللجنة الفنية _ الخاصة بالبند الفني التاسع _ على مدار ثلاث جلسات بالمؤتمر لمناقشة "سياسات التعليم والتدريب التقني والمهني في ظل الاقتصاد الرقمي".

اللجنة بقيادة الدكتور صلاح بن صالح ـ سعودي ـ والسيدة حصة الطنيجي ـ إماراتية ـ نائبا للرئيس، أوصت بضرورة تطوير تشريعات وبرامج ومناهج التعليم والتدريب التقني والمهني، لمواكبة متطلبات الاقتصاد الرقمي المعرفي، كما أوصت بتفعيل دور الإعلام وبرامجه في تعزيز ونشر ثقافة التعليم والتدريب المهني عربيا.

أظن أنه لدى دول الخليج العربي فرصة ثمينة لاحتلال موقع الصدارة عالمياً بتفعيل تلك التوصيات.

ففي الوقت الذي يكسو الاقتصادات العالمية حالياً «تعافٍ متأرجحٌ»، بعد انحسار جائحة كورونا، يشهد اقتصاد دول مجلس التعاون الخليجي انتعاشاً واضحاً بقطاعاته المختلفة، بحسب أحدث نسخة من نشرة بي دبليو سي الشرق الأوسط الاقتصادية.

أكدت النشرة تمتع دول الخليج بالمقومات اللازمة لتنفيذ خطط تحول الرؤية الوطنية طويلة الأجل، بامتلاكها لموارد مالية ضخمة يمكنها توجيهها لتحقيق أهدافها، في ظل أنظمة سياسية تضمن استمرارية القيادة حتى تحقيق هذه الأهداف. 

هنا، بالعلم والعمل المتطور، تنتعش الأنشطة الحقيقية لا السفلية.