بين منامتين

| ياسر سليم

في مصر، تُطلق كلمة المنامة على موضع دفن الموتى، لكن المعنى أبعد ما يكون عن “المنامة”، العاصمة المتدفقة بالحياة.. حينما قدر لي أن أعيش في المنامة ـ تلك المدينة الفاضلة ـ بضعة من أمتع أيام عمري، رأيتني في المنام أفتح منامة ابنتي، لأطالع فيها ألعابها ورفاتها. صحوت لأتذكر تفكيري من قبل في نقلها من مكان نومتها الحالية، إلى أخرى أكثر راحة لها، وقلت إن الرؤيا نتاج استدعاء عقلي الباطن للمعنى المصري لكلمة المنامة، حالما حللت بـ “المنامة” المدينة، فهاتفت المسؤول عن إحدى مدن الموتى غرب القاهرة: ما السعر الجديد لمقبرة أخرى جديدة؟ هالني الرقم الذي لفظه، التهم التضخم كل شيء، زاد السعر بنسبة 25 %. تقول الآلة الحاسبة إن فائض عام من العمل براتب متوسط في المنامة، يكفي بالكاد لشراء منامة متوسطة الحال في القاهرة. هكذا إذن، التضخم العالمي الراهن لم ينج منه حي ولا ميت، والبلاد على خريطة الكرة الأرضية الملتهبة تكافح للبقاء، وأنا أؤمن أن ما يعطي الأشياء قيمة مضافة، هو نتاج الأرض وجهد الإنسان، هكذا يقول منظرو الاقتصاد، وهنا يجب على الإنسان ـ إن لم يمنح قيمة كبرى للمكان ـ كما يحب ويرضى ـ أن يرحل طوعا، دون أعذار، ولو كانت حقيقة. هو سنة يوجبها الإنسان على نفسه، أو تفرضها عليه قوانين الطبيعة، فترحله قسرًا عن الحياة، حينما يصير بلا قيمة مضافة لها، والبلاد تعاني على خريطة الكرة الأرضية من ركود فادح، وتكافح “البلاد” - المؤسسة - للبقاء في الصدارة بأفكار ومبادرات متميزة، وكوادر محترفة: هنا يضع حسين لمسات بالكلمات، وهناك يبدع علي، وهنالك ينسق بوحسين، وعلى المدى يكد بوعلي، لا تسل حسين من؟ وعلي من؟ لا يهم، تختلط الأسماء والألقاب وتبقى الروح البديعة المولدة لكل ما يسقط في أيديكم كل صباح ثمرة شهية، وراء إنتاجها عقول تقدح أبدع ما فيها، وإدارة تدقق كل تفصيلة، وأنا أنظر من نافذة “البلاد” للمنامة الرابضة على المدى، النابضة بالحياة، وقلبي معلق بالقاهرة، حيث الجرافات تزأر لكسح منامات معيقة لطريق جديد يهدر بالأحياء، وسط شهقات الموتى تشبثا بالبقاء في الرقدة الأخيرة دون إزعاج.. يقول العقل شيئًا يخالفه فيه القلب، ولابد أن يفسح أحدهما الطريق للآخر، كي تستمر آلة الحياة دون عثرة.