كيف بدد الاقتصاد الرقمي السلطات التقليدية؟

| ياسر سليم

وقعت الثورة الاشتراكية في مجتمع زراعي هي روسيا، خلاف ما تنبأ به نبي الشيوعية كارل ماركس بوقوعها في مجتمع صناعي هو إنجلترا. كنت أود أن أرى وجه كارل ماركس، وهو يعابث لحيته الكثة الشهيرة، لو كان حيًا وقت صدمته في سقوط نبوءاته، ولو كان حيا اليوم إزاء الاقتصاد الرقمي، الذي ينسف نظرياته، ونظريات آدم سميث، نبي الرأسمالية، معًا. في كتابه الشهير “ثروة الأمم”، ضرب سميث مثالا باللؤلؤ، ثروة البحرين الأشهر وقتها، حينما أوضح أن ثمة أشياء لا قيمة استعمالية لها، كاللؤلؤ، ولكنها ذات قيمة تبادلية عالية، والعكس بالعكس؛ فالماء مثلا، عالي القيمة النفعية دون قيمة تبادلية، فلا يشتري شيئًا. هذا الكتاب العمدة في الاقتصاد الحر، يقابله الكتاب الآخر العمدة في الاقتصاد الاشتراكي، وهو كتاب رأس المال لكارل ماركس، الذي يتحدث عن فائض القيمة المتحصلة من جهود العمال، والتي يحصدها أصحاب الأعمال، وأنه لابد من إعادة توزيع الثروة بناء على الجهد المبذول. اليوم تعقدت علاقات العمل، وتبدلت وسائط الإنتاج، وصار الافتراضي هو السيد، ترى ماذا كان سيقول سميث عن العملات الرقمية مثلا، وقيمتها؟ وكيف كان ماركس سينظر للأصول الافتراضية ودورها في الجهد الإنتاجي؟  العالم اليوم بحاجة لنظريات جديدة، تحدد عناصر الثروة، وأين تكمن؟ وكيف تنتقل رؤوس الأموال أفقيًا بين القطاعات المختلفة، ورأسيًا بين الطبقات المتراتبة، وما أثر ذلك اجتماعيا وسياسيا؟ السؤال الأخير أستطيع أن أجتهد في إجابته، لأقول إن الاقتصاد الرقمي بدأ في تفكيك وتبديد السلطات التقليدية للمؤسسات الحاكمة للمجتمعات “الدولة، الشركة، الأسرة”. الإعلام مثلا، تلك السلطة التي كانت بيد الحكومات الاشتراكية في المجتمعات الشيوعية، وبيد الشركات الكبرى الممولة للإعلام في المجتمعات الرأسمالية، كيف بددها الاقتصاد الرقمي؟ أثبتت الأحداث المتصاعدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة أن الأمور خرجت عن أيدي المسيطرين التقليديين، فوسائل إعلام الحكومات والشركات اندحرت أمام ما وفره الاقتصاد الرقمي للشعوب من وسائط تواصل وإعلام سائل غير محكوم، وفقدت إسرائيل ـ صاحبة اللوبي الإعلامي الأقوى عالميا ـ قدرتها على توجيه الرأي العام الغربي، فرأينا تحولًا شعبيًا هائلا مدفوعًا بانكشاف الحقائق أمام الجماهير، التي أجبرت الحكومات الغربية على تغيير مواقفها. ثمة تغييرات أخرى اجتماعية أشد خطورة، أطرحها في مقالات قادمة.