قمة تبنت لغة المنطق

| د. احمد بن سالم باتميرا

لا‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نختلف‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬القمم‭ ‬العربية‭ ‬والتجمع‭ ‬العربي‭ ‬تحت‭ ‬مظلة‭ ‬واحدة‭ ‬أمر‭ ‬جيد،‭ ‬بالإضافة‭ ‬لصدور‭ ‬بيان‭ ‬يحمل‭ ‬مضامين‭ ‬ورسائل‭ ‬وقرارات‭ ‬تغطي‭ ‬الشأن‭ ‬العربي‭ ‬والدولي،‭ ‬ونتطلع‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬تنفيذ‭ ‬ما‭ ‬تم‭ ‬الاتفاق‭ ‬عليه‭ ‬بروح‭ ‬من‭ ‬المسؤولية‭ ‬والشعور‭ ‬بأن‭ ‬المنطقة‭ ‬أمام‭ ‬خطر‭ ‬داهم‭ ‬لا‭ ‬محالة‭ ‬لن‭ ‬تنجو‭ ‬منه‭ ‬أية‭ ‬دولة‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬القادمة،‭ ‬بمعنى‭ ‬ظهور‭ ‬شرق‭ ‬أوسط‭ ‬جديد،‭ ‬نعرف‭ ‬أن‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬جميعها‭ ‬لا‭ ‬تدخر‭ ‬جهدا‭ ‬في‭ ‬دعم‭ ‬العمل‭ ‬العربي‭ ‬المشترك‭.‬

القضايا‭ ‬المطروحة‭ ‬في‭ ‬القمة‭ ‬كانت‭ ‬كثيرة‭ ‬ومتعددة،‭ ‬بدءا‭ ‬من‭ ‬قضيتنا‭ ‬الأولى‭ ‬والمهمة‭ ‬“فلسطين”‭ ‬مرورا‭ ‬بالسودان‭ ‬واليمن‭ ‬والصومال‭ ‬وسوريا‭ ‬ولبنان‭ ‬والعراق‭ ‬وليبيا‭ ‬والأوضاع‭ ‬في‭ ‬جزر‭ ‬القمر،‭ ‬أزمات‭ ‬تحل‭ ‬هنا،‭ ‬وأخرى‭ ‬تندلع‭ ‬هناك،‭ ‬وهذه‭ ‬تتراكم‭ ‬خطورتها‭ ‬وتتصاعد‭ ‬بسبب‭ ‬تدخلات‭ ‬خارجية‭ ‬ونوايا‭ ‬غربية‭ ‬معروفة‭ ‬المصدر‭ ‬والأسباب،‭ ‬لمصالح‭ ‬سياسية‭ ‬وأمنية‭ ‬واقتصادية،‭ ‬فقد‭ ‬آن‭ ‬الأوان‭ ‬لوقفها‭ ‬قبل‭ ‬نفاد‭ ‬خزائننا،‭ ‬وتدمير‭ ‬ما‭ ‬بنيناه‭ ‬في‭ ‬سنوات‭ ‬وسنوات‭ ‬من‭ ‬تنمية‭ ‬وازدهار‭ ‬في‭ ‬دولنا‭ ‬العربية‭. ‬ومما‭ ‬ميز‭ ‬قمة‭ ‬البحرين‭ ‬كلمة‭ ‬الأمين‭ ‬العام‭ ‬للأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬“أنطونيو‭ ‬جوتيريش”‭. ‬قمة‭ ‬تبنت‭ ‬لغة‭ ‬المنطق،‭ ‬لأنها‭ ‬تدرك‭ ‬جيدا‭ ‬أن‭ ‬الحلول‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬تطبيق‭ ‬قرارات‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭ ‬والأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬والمحكمة‭ ‬العليا‭ ‬وليس‭ ‬الحل‭ ‬العسكري،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬اللغة‭ ‬لم‭ ‬يصبح‭ ‬لها‭ ‬وجود‭ ‬في‭ ‬القاموس‭ ‬العالمي‭ ‬بعد‭ ‬تمزيق‭ ‬الوزير‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬قانون‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬وأخواتها،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬سقطت‭ ‬كل‭ ‬القوانين‭ ‬وفشل‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬وقف‭ ‬الإبادة‭ ‬والقتل‭ ‬والتدمير‭ ‬والتهجير‭ ‬في‭ ‬غزة‭ ‬وضواحيها‭. ‬لكن‭ ‬“جوتيريش”‭ ‬وجه‭ ‬صاروخا‭ ‬عبر‭ ‬القارات‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬القمة‭ ‬ودعا‭ ‬القادة‭ ‬العرب‭ ‬للاتحاد‭ ‬والتضامن‭ ‬والوحدة‭ ‬لمواجهة‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬قادم‭. ‬فوصف‭ ‬الأمين‭ ‬العام‭ ‬للأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬كلمته‭ ‬في‭ ‬القمة‭ ‬العدوان‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬المتواصل‭ ‬على‭ ‬قطاع‭ ‬غزة‭ ‬بـ‭ ‬“الجرح‭ ‬المفتوح”‭ ‬الذي‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يتسبب‭ ‬بعدوى‭ ‬في‭ ‬جسد‭ ‬المنطقة‭ ‬برمتها‭ ‬ويتوسع‭ ‬لأماكن‭ ‬أخرى‭.‬

تحذير‭ ‬“جوتيريش”‭ ‬الكاثوليكي‭ ‬الديانة‭ ‬والإنساني‭ ‬بمواقفه‭ ‬المشرفة‭ ‬وتصريحاته‭ ‬لكل‭ ‬القادة‭ ‬من‭ ‬العدوان‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬الذي‭ ‬قال‭ ‬عنه‭ ‬“هو‭ ‬الأكثر‭ ‬فتكا‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬شهده‭ ‬من‭ ‬نزاعات‭ ‬وحروب”،‭ ‬مشددا‭ ‬على‭ ‬ضرورة‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬الطابع‭ ‬الديموغرافي‭ ‬والتاريخي‭ ‬للقدس‭ ‬والوضع‭ ‬الراهن‭ ‬في‭ ‬الأماكن‭ ‬المقدسة‭.‬

وأكد‭: ‬“اننا‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬إصلاحات‭ ‬عميقة‭ ‬للنظام‭ ‬العالمي‭ ‬متعدد‭ ‬الأطراف‭ ‬من‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭ ‬إلى‭ ‬الهيكل‭ ‬المالي‭ ‬الدولي‭ ‬لكي‭ ‬يصبح‭ ‬عالمي‭ ‬الطابع‭ ‬بحق‭ ‬ويكون‭ ‬ممثلا‭ ‬للواقع‭ ‬المعاش‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العصر”‭. ‬ليضع‭ ‬جوتيريش‭ ‬النقاط‭ ‬على‭ ‬الحروف‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القمة،‭ ‬وعلى‭ ‬كل‭ ‬العرب‭ ‬تبني‭ ‬كلمته‭ ‬كأساس‭ ‬وخارطة‭ ‬طريق‭ ‬لما‭ ‬هو‭ ‬قادم‭.‬

فما‭ ‬بالنا‭ ‬بدعوته‭ ‬الصريحة‭ ‬عندما‭ ‬أكد‭ ‬أن‭ ‬“الاتحاد”‭ ‬هو‭ ‬الشرط‭ ‬الأساسي‭ ‬الوحيد‭ ‬للنجاح‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬اليوم،‭ ‬وأن‭ ‬الانقسامات‭ ‬تفسح‭ ‬المجال‭ ‬لتدخل‭ ‬أطراف‭ ‬خارجية،‭ ‬ما‭ ‬يغذي‭ ‬الصراعات‭ ‬ويؤجج‭ ‬التوترات‭ ‬الطائفية،‭ ‬رسالة‭ ‬عميقة‭ ‬من‭ ‬رجل‭ ‬أراد‭ ‬رد‭ ‬الجميل‭ ‬للعرب‭ ‬الذين‭ ‬ساندوه‭ ‬للفوز‭ ‬بهذا‭ ‬المقعد‭ ‬الأممي‭.‬

فأنطونيو‭ ‬جوتيريش‭ ‬قال‭ ‬إننا‭ ‬نملك‭ ‬إمكانيات‭ ‬هائلة‭ ‬وبشرا‭ ‬وثقافة،‭ ‬لكن‭ ‬ينقصنا‭ ‬الاتحاد،‭ ‬فالانقسامات‭ ‬هي‭ ‬سبب‭ ‬ضعفنا‭ ‬وتقسيمنا‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تسمح‭ ‬لتدخل‭ ‬الآخرين‭ ‬فينا‭ ‬كما‭ ‬ذكر،‭ ‬ما‭ ‬يغذي‭ ‬الصراعات‭ ‬ويؤجج‭ ‬التوترات،‭ ‬لتأتي‭ ‬رؤية‭ ‬مملكة‭ ‬البحرين‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬الطرح‭ ‬البناء‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المبادرات‭ ‬التي‭ ‬اعلنت‭ ‬في‭ ‬القمة‭.‬

فصوت‭ ‬الحق‭ ‬جاء‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬من‭ ‬رجل‭ ‬يقود‭ ‬أهم‭ ‬كيان‭ ‬سياسي،‭ ‬مشيرا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬“الاتحاد”‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬إسماع‭ ‬صوت‭ ‬المنطقة‭ ‬ذات‭ ‬الأهمية‭ ‬الحيوية،‭ ‬بمزيد‭ ‬من‭ ‬القوة‭ ‬وتعزيز‭ ‬التأثير‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬العالمية‭. ‬فهل‭ ‬من‭ ‬مستمع‭ ‬لهذا‭ ‬النداء‭ ‬الواقعي‭ ‬والمنطقي‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬يعمل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تفتيت‭ ‬دول‭ ‬المنطقة‭ ‬والسيطرة‭ ‬على‭ ‬ثرواتها‭ ‬وتغيير‭ ‬ديانتها‭ ‬ونشر‭ ‬العلمانية‭ ‬والحريات‭ ‬الكاذبة‭ ‬في‭ ‬بلداننا‭ ‬الإسلامية‭.‬

لذا‭ ‬فإن‭ ‬قمة‭ ‬البحرين‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نطلق‭ ‬عليها‭ ‬قمة‭ ‬“المصارحة‭ ‬والتحديات”،‭ ‬فالتحديات‭ ‬كبيرة،‭ ‬والمصارحة‭ ‬جاءت‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬جوتيريش‭ ‬وهذه‭ ‬جميعها‭ ‬تتطلب‭ ‬توحيد‭ ‬الجهود‭ ‬لمواجهتها،‭ ‬والاتفاق‭ ‬على‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬القرارات‭ ‬لتنفيذها‭ ‬سياسيا‭ ‬واقتصاديا‭ ‬بما‭ ‬يكفل‭ ‬للأمة‭ ‬العربية‭ ‬العيش‭ ‬بسلام‭ ‬وأمان‭ ‬دائم‭ ‬ومستدام‭.‬

فعيلنا‭ ‬أن‭ ‬نسخر‭ ‬كل‭ ‬إمكانياتنا‭ ‬وثقلنا‭ ‬كما‭ ‬دعا‭ ‬الأمين‭ ‬العام‭ ‬للأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الدولي‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬ننعم‭ ‬بالاستقرار،‭ ‬ونوقف‭ ‬إسرائيل‭ ‬عند‭ ‬حدها‭ ‬بالاتفاق‭ ‬والشراكة‭ ‬مع‭ ‬أصدقاء‭ ‬السلام،‭ ‬وهذه‭ ‬المعادلة‭ ‬يكون‭ ‬تنفيذها‭ ‬بوحدة‭ ‬الصف‭ ‬العربي‭ ‬واندماج‭ ‬الرؤى؛‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬الكاثوليكي‭ ‬الطيب‭ ‬الإنسان‭.‬

صحيح‭ ‬أن‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬القضايا‭ ‬ليست‭ ‬جديدة‭ ‬ولا‭ ‬طارئة،‭ ‬لكن‭ ‬الصحيح‭ ‬أنها‭ ‬ككرة‭ ‬الثلج‭ ‬كلما‭ ‬تأخر‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬حلول‭ ‬لها‭ ‬كلما‭ ‬توسعت‭ ‬وزادت‭ ‬خطورتها‭ ‬على‭ ‬دول‭ ‬المنطقة،‭ ‬وأصبحت‭ ‬لدينا‭ ‬قناعة‭ ‬بأن‭ ‬إيجاد‭ ‬حلول‭ ‬لها‭ ‬هو‭ ‬بأيدي‭ ‬القادة‭.‬

أعلنها‭ ‬الأمين‭ ‬العام‭ ‬في‭ ‬قمة‭ ‬البحرين،‭ ‬وترك‭ ‬لنا‭ ‬القرار‭ ‬لخوض‭ ‬المعركة‭ ‬السياسية‭ ‬والدبلوماسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والأمنية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬وحدتنا‭ ‬أولا،‭ ‬ولنكون‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬نكون،‭ ‬وأيضا‭ ‬السعي‭ ‬للاعتراف‭ ‬بالدولة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬بعد‭ ‬الرفض‭ ‬الغربي‭ ‬والفيتو‭ ‬الأميركي‭.‬

إن‭ ‬“حل‭ ‬الدولتين”‭ ‬يتم‭ ‬عبر‭ ‬دعوة‭ ‬جماعية‭ ‬لمؤتمر‭ ‬دولي‭ ‬لحل‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬البيان‭ ‬الختامي،‭ ‬وكما‭ ‬يقال‭ ‬في‭ ‬الأمثال‭ ‬“الضرس‭ ‬ليمن‭ ‬رقل‭ ‬من‭ ‬شلعته‭ ‬لابد”،‭ ‬“لابد‭ ‬من‭ ‬شلعه‭ ‬والتخلص‭ ‬منه”،‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬أمل‭ ‬في‭ ‬علاجه،‭ ‬فيصبح‭ ‬من‭ ‬الخطر‭ ‬بقاؤه،‭ ‬والتدخل‭ ‬في‭ ‬“شلعه”‭ ‬هو‭ ‬الحل‭ ‬السريع،‭ ‬ف”الجرح‭ ‬المفتوح”‭ ‬في‭ ‬غزة‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يتسبب‭ ‬بعدوى‭ ‬في‭ ‬جسد‭ ‬المنطقة‭ ‬برمتها،‭ ‬والاتحاد‭ ‬ضرورة‭ ‬للبقاء‭ ‬والانتصار‭.. ‬والله‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬القصد‭.‬

 

كاتب‭ ‬ومحلل‭ ‬سياسي‭ ‬عماني