هل أوروبا قارة في خطر؟

| إميل أمين

ضمن الكثير من الملفات الساخنة المطروحة على موائد النقاش الفكري حول العالم في الآونة الأخيرة، يأتي ملف المخاطر المحدقة بالقارة الأوروبية، وهل هي في خطر حقيقي في الحال، وينتظرها هول أعظم في الاستقبال؟ المؤكد أن الأذهان سوف تتبادر إليها وبصورة سريعة المخاطر الجيوسياسية، لاسيما المواجهة المفتوحة مع روسيا – بوتين، خصوصا في ظل النوايا الأميركية والأوروبية بدعم أوكرانيا بأسلحة متقدمة يمكنها أن تتسبب في حدوث خسائر كبرى بالنسبة للروس، ما يدفعهم للانتقام الشرس من عموم الأوروبيين. على أن سطور هذا المقال، ورغم أنها تأخذ في حسبانها أبعاد المواجهة الروسية – الأوروبية، إلا أن هناك في واقع الأمر خطرا أشد أثرا، ذاك المتعلق بفكرة “الشتاء الديموغرافي” الذي يحلق فوق سماوات القارة الأوروبية، ونعني به تناقص عدد سكانها بشكل ينذر بأن القارة في خطر حقيقي جراء تناقص عدد المواليد عاما تلو الآخر. ما السبب الرئيس في نشوء وارتقاء ظاهرة “الشتاء الديموغرافي” أوروبيا؟ يمكن القطع بأن الحرية المطلقة الغناء، والمتحللة من أية قيود أخلاقية أو مجتمعية هي السبب المباشر. يبدو غالبية الشباب الأوروبي في العقود الأخيرة ميالا إلى فكرة عدم الزواج وإنجاب أطفال، انطلاقا من أن الأمر يمثل بالنسبة لهم أصفادا ضد حركتهم وتنقلاتهم، بل ضد تغيير موجات حياتهم، ولهذا فإن السبب الأساس في الأزمة يمكننا أن نعزيه إلى تلاشي قيم ثقافية مجتمعية في مقدمتها مفهوم الأسرة وأهميتها بالنسبة للمجتمعات أول الأمر، وللإنسانية بشكل أوسع. الذين لا يريدون الأطفال هم باحثون عن الحرية المزيفة، وهؤلاء لا ينتظمون في أي من المنظومات الثقافية أو الدينية، والتدهور الخطير لهذه القيم هو ما ولد ظهور وتعميم القيم المضادة. أضحت غالبية المجتمعات الأوروبية في العصور الحديثة، شديدة القرب من مفهوم الرواقيين الذين عرفتهم أثينا في أوج حضارتها، وقد كان شعار هؤلاء “فلنأكل ولنشرب فإنا غدا نموت”.   

ساعد على تمدد زمن “الشتاء الديموغرافي”، وبحسب البروفيسور “ألبان دينتر يممونت”، أستاذ علم الجغرافيا في أوروبا في جامعة نافارا في أسبانيا، ظهور مفاهيم مثل الثورة الجنسية، تلك التي تستلزم إضفاء الصفة الرسمية والموافقة الاجتماعية على بدائل لفكرة الأسرة المترابطة التقليدية.  هل التقدم العلمي سلاح ذو حدين، فكما يغني البشرية، يمكن أن يفقرها أخلاقيا وإنسانيا؟ يبدو أن ذلك كذلك، لاسيما أن البدائل غير الطبيعية للتكاثر البشري، بدأت تشغل حيزا مخالفا للنواميس الطبيعية، وهناك من يأمل في أشكال من التكاثر، بعيدا عن الوحدة الطبيعية بين الرجل والمرأة كشأن الله في خلقه.  هنا لابد من الإشارة إلى أن قضايا مثل التلاعب الجيني والتخصيب في المختبرات والاستنساخ، تطرح فيما يتعلق بالجنس البشري والزواج والأسرة، عنصرا جديدا ومقلقا من التفكك الشخصي والجماعي. هل من عواقب مباشرة للشتاء الديموغرافي الأوروبي في المدى المنظور؟ الجواب على صعيدين، إنسانوي ثقافوي أول الأمر، واقتصادي مالي في الدرجة الثانية. يعني الشتاء الديموغرافي، اندثار الثقافة الأوروبية، مع خسارة صافية لملايين السكان الأوروبيين في النصف الأول من هذا القرن عطفا على شيخوخة مزعجة من السكان. ثانيا، وعلى الجانب المالي سوف ترتفع رسوم الضمان الاجتماعي، وسوف تطفو على السطح اختلالات خطيرة في هياكل الإنتاج والاستهلاك.  على أن الكارثة الأكبر بالنسبة للعالم برمته وليس للأوروبيين قد تتمثل في إمكانية الوصول إلى نقطة زمنية تصل فيها الحضارة الأوروبية التنويرية، إلى الاضمحلال كما جرى لحضارات إنسانية سابقة رومانية ويونانية وفرعونية. هل من خلاصة؟  المؤكد أنه لا يمكن تغيير الخلل العميق في واقع أوروبا الديموغرافي إلا من خلال تغيير عميق في المواقف تجاه واقع الشخص، الجنس، الزواج، الإنجاب، الأسرة، وفي نهاية المطاف، أمام الواقع الأعمق لما تستتبعه الحالة الإنسانية لجوهرها وأهدافها النهائية. وفي كل الأحوال يبدو الخوف من الشتاء الديموغرافي، صيحة لتنبيه الباحثين عن هياكل أخرى مختلفة عن الأسرة التقليدية، ما يؤدي بالضرورة إلى تناقضات جوهرية في البنية التكتونية البشرية، تناقضات لا يمكن القضاء عليها إلا من خلال استعادة القيم التي تعزز الأسرة كنواة لمجتمع بشري صالح وطبيعي. كاتب مصري خبير في الشؤون الدولية