العطاء والبذل في زمن الأضحى

| إميل أمين

بعيدا عن السياسة وفتنتها، والحروب ومآسيها، نحاول أن نلتقط بعض الأنفاس في زمن عيد الأضحى المبارك، حيث المعنى والمبنى يدوران في سياق العطاء والبذل، وبعيدا عن الأنانية والنرجسية.

يحفل تاريخنا العربي بنماذج بشرية عربية عاشت بيننا، وقدمت أفضل وأنقى نموذج للعطاء الإنساني دون حد أو مد.

تبدو قصة غريغوريوس حداد بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس والمولود في دمشق في 9 مايو 1869 أقرب ما تكون لسيرة طوباوية، وليست سيرة رجل دين اعتيادي. لا يسمح لنا المسطح المتاح للكتابة بتناول سيرة غريغوريوس حداد الخاصة، من مولد ونشأة وتعليم، ثم دخول السلك الديني، فهذه جميعها يمكن الحصول عليها عبر البحث في أدوات المعرفة. أما ما نود التوقف عنده فهو تجربته الصادقة في مضمار الأخوة الإنسانية في الزمن الصعب. لعل ما ميز هذا البطريرك العتيد، هو احترامه الآخر، وتقديره معتقده، من غير محاصصة طائفية، فصار قلبه قابلا كل صورة، فمرعى لغزلان، ودير لرهبان، وبيت لأوثان، وكعبة طائف، على حد تعبير ابن عربي. أدرك غريغوريوس مبكرا أن هناك حكمة علوية في التعددية، على اختلاف أشكالها وألوانها، ومنها التعددية الدينية، ورسخ لديه أنه لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة. في هذا السياق تقول إحدى المرويات، ان شيخا دمشقيا من حفظة القرآن الكريم، زاره في دار البطريركية، وله مظلمة تتعلق بدين له على أحد أتباع البطريرك الروحيين، وقد سأله أن يساعده في استرداد ماله، فطيب البطريرك خاطره، ووعده بتحصيل دينه، شريطة أن يتلو على مسامعه سورة مريم.

كان صوت الشيخ “محمد شميسم” رخيما، ولأنه ضرير فلم يكن يرى حال البطريرك حداد، فيما أكد مرافقه أن دموع الخشوع أخذت تنهمر من عيني البطريرك على لحيته، وتتساقط منها على صدره... وبعد أن انتهى الشيخ “شميسم” من التلاوة قام حداد إلى غرفته الخاصة وأحضر المال المطلوب ودفعه.

عاش غريغوريوس حداد في الزمن الصعب جدا، خلال السنوات الممتدة من 1914 وحتى 1918، وهي سنوات الحرب العالمية الأولى، والتي وقعت فيها في بلاد الشام المجاعة الكبير المعروفة باسم “سفر برلك”.

كانت الامبراطورية العثمانية قد استولت على الغلال التي تنتجها الأراضي الشامية الخصيبة، وقامت بتصديرها إلى ألمانيا والنمسا، عطفا على أن الجراد ساهم بالقضاء على الأخضر واليابس في البلاد، فقلت المواد الغذائية، وارتفعت أسعارها بجنون.

هل وقف البطريرك حداد صامتا أمام المجاعة؟ تبدو سيرة البطريرك الراحل مثيرة للدهشة الممزوجة بالإعجاب، والقصص والمرويات هنا الموثقة في دفاتر التاريخ الشامي أكثر من أن نحيط بها.

من بين ما وصلنا أن مجموعة من النسوة المسلمات قابلن البطريرك في طريقه لافتقاد رعاياه، فشكون من الجوع، وعلا صوتهن بالحاجة إلى خبز لإطعام أطفالهن الجياع، فعاد من فوره إلى البطريركية، وأمر أن توزع المؤن على الجميع دون تفرقة بين ملة وأخرى، كل محتاج يتم إعطاؤه ما سأل.

على أنه حين اشتدت المجاعة، عمد البطريرك حداد إلى بيع الكثير من الأراضي الوقف الخاصة بالبطريركية، واستخدام العائد لاستنقاذ الأرواح من الجوع الأعظم، الأمر الذي أدى إلى حدوث عجز كبير في موازنة البطريركية، فاق 25 ألف قطعة ذهبية.

وضع البطريرك حداد نصب عينيه، آية انجيلية تقول: “كنت جوعانا فاطعمتموني”، ولهذا لم يحدد من هو الجوعان عبر فرز عنصري طائفي، كان الجميع بالنسبة له إخوة في بشرية واحدة.

أطلق عليه “أبوالفقراء المسلمين”، لأنه كان كذلك بالفعل، فقد حدث ذات مرة أنه كان يراقب أحد تلاميذه الذين يوزعون الخبز على المحتاجين، فاقتربت منه سيدة عجوز تسأل خبزا، فأخبرها أنه نفذ لكثرة الحسنات التي وزعت في ذلك النهار، مع أنه كان قد تبقى لديه القليل منه.

في التو سارع حداد وأخذ رغيف الخبز من تلميذه، ورفعه إلى الأعلى وقال: “يا بني هل كتب على هذا الرغيف من سيأكله”، فأجاب التلميذ لا، فقال له حداد “أعط الصدقة لكل من يطلبها، فالخلق كلهم عيال الله”، وناول السيدة وغيرها حصتهم من الخبز.

القصة لمن يريد الاستزادة أعمق وأوسع من السطور السابقة.. وما كتبناه ليس إلا غيضا من فيض من حياة رجل العطاء والبذل.

كل عام وأنتم بألف خير.

- كاتب مصري خبير في الشؤون الدولية