“عبدالموجود” والطريق المسدود

| أسامة مهران

عيد‭ ‬الأضحى‭ ‬المبارك‭ ‬الذي‭ ‬أرخى‭ ‬سدوله‭ ‬منذ‭ ‬مطلع‭ ‬الشهر‭ ‬الجاري،‭ ‬ترك‭ ‬لنا‭ ‬فرصة‭ ‬سانحة‭ ‬لتفقد‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬الثقافية‭ ‬العربية،‭ ‬أخبار‭ ‬الأدب،‭ ‬وحكايا‭ ‬المثقفين‭ ‬على‭ ‬أدوات‭ ‬التواصل،‭ ‬نكات‭ ‬البعض‭ ‬و”بوستات”‭ ‬البعض‭ ‬الآخر،‭ ‬مقال‭ ‬مارق‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬وآخر‭ ‬متجذر‭ ‬من‭ ‬هناك‭. ‬مجرد‭ ‬مقال‭ ‬خرج‭ ‬به‭ ‬أحد‭ ‬الصحافيين‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬“أخبار‭ ‬الأدب”،‭ ‬الموضوع‭ ‬عن‭ ‬شعراء‭ ‬التسعينيات‭ ‬والهجوم‭ ‬على‭ ‬شعراء‭ ‬السبعينيات،‭ ‬حسن‭ ‬عبدالموجود‭ ‬جزاه‭ ‬الله‭ ‬كل‭ ‬خير‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬القصيدة‭ ‬المصرية‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬طريق‭ ‬مسدودة‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬شعراء‭ ‬السبعينيات،‭ ‬وقال‭ ‬بالحرف‭ ‬الواحد‭: ‬مات‭ ‬صلاح‭ ‬عبدالصبور،‭ ‬وأمل‭ ‬دنقل،‭ ‬وهاجر‭ ‬عبدالمعطي‭ ‬حجازي،‭ ‬وخلا‭ ‬المشهد‭ ‬لجيل‭ ‬السبعينيات‭ ‬الذي‭ ‬أحال‭ ‬القضية‭ ‬إلى‭ ‬ألاعيب‭ ‬لغوية‭ ‬آيديولوجية،‭ ‬تستقي‭ ‬مرجعيتها‭ ‬الكاملة‭ ‬من‭ ‬تنظيرات‭ ‬أدونيس‭.‬

والحق‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬السيد‭ ‬عبدالموجود‭ ‬لم‭ ‬يخطئ‭ ‬لأن‭ ‬كثيرين‭ ‬من‭ ‬جيلنا‭ ‬الذي‭ ‬أتشرف‭ ‬بالانتماء‭ ‬إليه‭ ‬كان‭ ‬يضع‭ ‬أدونيس‭ ‬على‭ ‬“سدرة‭ ‬منتهى”‭ ‬القصيدة‭ ‬العربية،‭ ‬على‭ ‬نعش‭ ‬من‭ ‬عاداه‭ ‬من‭ ‬أجيال‭ ‬وأفكار‭ ‬وقصائد،‭ ‬تمامًا‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬العالم‭ ‬السويسري‭ ‬“الجليل”‭ ‬ستيفان‭ ‬جاريللي‭ ‬الذي‭ ‬بشر‭ ‬مع‭ ‬مطلع‭ ‬الألفية‭ ‬بأن‭ ‬“التاريخ‭ ‬يبدأ‭ ‬غدًا”‭. ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬الانضمام‭ ‬إلى‭ ‬ديوان‭ ‬المظالم‭ ‬الافتراضي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يستقبل‭ ‬عشرات‭ ‬الشعراء‭ ‬مع‭ ‬إشراقة‭ ‬كل‭ ‬صباح،‭ ‬فإنه‭ ‬وللحق‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬أدونيس‭ ‬أوقع‭ ‬رغم‭ ‬اجتهاده‭ ‬المثير‭ ‬جيلاً‭ ‬كاملاً‭ ‬فيما‭ ‬أطلق‭ ‬عليه‭ ‬آنذاك‭ ‬بـ‭ ‬“التجريب”‭ ‬و”تثوير‭ ‬اللغة”‭ ‬و”تدريم‭ ‬القصيدة”،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬المصطلحات‭ ‬التي‭ ‬تلقفها‭ ‬السياسيون‭ ‬قبل‭ ‬الأدباء‭ ‬ليروجوا‭ ‬لها‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬الثقافية‭ ‬المصرية‭ ‬والعربية‭. ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬“أدونيس”‭ ‬إمامًا‭ ‬لجيل‭ ‬بأكمله،‭ ‬ومصطلحًا‭ ‬افتراضيًا‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬سائدًا‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬من‭ ‬أشعار‭ ‬لم‭ ‬ترتكب‭ ‬من‭ ‬الحماقات‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬ارتكبه‭ ‬المجددون‭ ‬في‭ ‬أجيال‭ ‬سابقة،‭ ‬وأقل‭ ‬مما‭ ‬يحاك‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬إزالات‭ ‬لأنقاض‭ ‬كان‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬إزالتها‭ ‬في‭ ‬حينها‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتعفن‭ ‬الأراضي‭ ‬“البور”‭ ‬وتصبح‭ ‬غير‭ ‬صالحة‭ ‬لأي‭ ‬شيء‭.‬

“أدونيس”‭ ‬كان‭ ‬مغامرًا،‭ ‬وكان‭ ‬ومازال‭ ‬مفكرًا،‭ ‬وكان‭ ‬ومازال‭ ‬مبدعًا‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاته،‭ ‬ولكن‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬حدود‭ ‬الآخرين،‭ ‬ليست‭ ‬مشكلة‭ ‬أنه‭ ‬مازال‭ ‬يفكر‭ ‬ويفكر،‭ ‬أو‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يفكر‭ ‬ويفكر،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬مشكلة‭ ‬السياسيين‭ ‬الذين‭ ‬ارتأوا‭ ‬في‭ ‬“الثابت‭ ‬والمتحول”‭ ‬مدخلاً‭ ‬شعريًا‭ ‬لمواقفهم‭ ‬الآيديولوجية،‭ ‬ارتأوا‭ ‬فيه‭ ‬مثلاً‭ ‬أن‭ ‬“الموقف‭ ‬الأدبي”‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ينفصل‭ ‬عن‭ ‬الموقف‭ ‬السياسي،‭ ‬وأن‭ ‬الثائر‭ ‬بطبعه‭ ‬على‭ ‬الواقع‭ ‬الراهن‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الراهن،‭ ‬ينبغي‭ ‬عليه‭ ‬الالتزام‭ ‬بنظريات‭ ‬أدونيس‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بـ‭ ‬“التثوير”‭ ‬و”التدريم”‭ ‬و”التنوير”،‭ ‬وعلاقة‭ ‬اللغة‭ ‬بأوزان‭ ‬الخليل‭.‬

كان‭ ‬أدونيس‭ ‬في‭ ‬حقبة‭ ‬السبعينيات‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬“مقدمة‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬الحديث”‭ ‬أهم‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬الذين‭ ‬كتبوا‭ ‬عن‭ ‬“الحلاج”‭ ‬و”ليلى‭ ‬والمجنون”‭ ‬و”البكاء”،‭ ‬وحتى‭ ‬عن‭ ‬رومانسية‭ ‬أبوسنة‭ ‬في‭ ‬“أجراس‭ ‬المساء”‭.‬

أضم‭ ‬صوتي‭ ‬لك‭ ‬يا‭ ‬أخي‭ ‬عبدالموجود،‭ ‬ولكنني‭ ‬أسحبه‭ ‬لأنك‭ ‬لم‭ ‬تقرأ‭ ‬السبعينيات‭ ‬جيدًا،‭ ‬لأنك‭ ‬باختصار‭ ‬شديد‭ ‬اختصرت‭ ‬المشهد‭ ‬في‭ ‬جماعتين‭ ‬شعريتين‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يبدو،‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬“المهاجرين‭ ‬والأنصار”‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬والخارج‭ ‬المصري‭ ‬ما‭ ‬يجعلهم‭ ‬حتى‭ ‬اللحظة‭ ‬بمثابة‭ ‬حلقة‭ ‬الوصل‭ ‬الحية‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬شعراء‭ ‬الخمسينيات‭ ‬والستينيات‭ ‬مع‭ ‬نظرائهم‭ ‬في‭ ‬التسعينيات‭ ‬وما‭ ‬بعدها‭.‬

اجتزاء‭ ‬“المجزأ”‭ ‬أصابنا‭ ‬بغيبوبة‭ ‬فكرية‭ ‬كلما‭ ‬حاولنا‭ ‬الاستيقاظ‭ ‬منها‭ ‬تداهمنا‭ ‬غيبوبة‭ ‬أخرى،‭ ‬“وخلف‭ ‬كل‭ ‬قيصر‭ ‬قديم،‭ ‬قيصر‭ ‬جديد”‭ ‬ودمعة‭ ‬سدى،‭ ‬هكذا‭ ‬كان‭ ‬يفسر‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬أحلامه‭ ‬في‭ ‬وجوه‭ ‬محبيه،‭ ‬وهكذا‭ ‬كان‭ ‬يطلق‭ ‬رصاصات‭ ‬الرحمة‭ ‬عليهم‭ ‬كلما‭ ‬فقد‭ ‬فيهم‭ ‬الأمل‭.‬

الزميل‭ ‬حسن‭ ‬عبدالموجود‭ ‬أثار‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬تحت‭ ‬ركام‭ ‬كثيف‭ ‬من‭ ‬الأبخرة‭ ‬التي‭ ‬مازالت‭ ‬متصاعدة‭ ‬رغم‭ ‬وعورة‭ ‬المرحلة،‭ ‬ورعونة‭ ‬حملة‭ ‬“الدفاع‭ ‬عن‭ ‬اللقب”،‭ ‬شعراء‭ ‬سبعينيات‭ ‬أضافوا‭ ‬ولم‭ ‬يحذفوا،‭ ‬وآخرون‭ ‬رحلوا‭ ‬أو‭ ‬اختفوا،‭ ‬والله‭ ‬أعلم‭.‬

‭* ‬كاتب‭ ‬بحريني‭ ‬والمستشار‭ ‬الإعلامي‭ ‬للجامعة‭ ‬الأهلية