شعراء السبعينات بين زمامين (2)

| أسامة مهران

بعد‭ ‬أربعة‭ ‬عقود‭ ‬سادها‭ ‬الصمت‭ ‬الرهيب،‭ ‬رحل‭ ‬“البعض”،‭ ‬واستعد‭ ‬“البعض‭ ‬الآخر”‭ ‬للرحيل،‭ ‬بعد‭ ‬المقال‭ ‬المتحول،‭ ‬والنثر‭ ‬المتأقصد،‭ ‬والشعر‭ ‬المنثور،‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬لدينا‭ ‬روح‭ ‬للمناكفات‭ ‬والمهاترات،‭ ‬ولا‭ ‬إعادة‭ ‬اختراع‭ ‬العجلة‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬فما‭ ‬حدث‭ ‬قد‭ ‬حدث،‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬يترك‭ ‬على‭ ‬سكتته‭ ‬الدماغية‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬إشعال‭ ‬فتيل،‭ ‬أو‭ ‬تقليب‭ ‬مواجع،‭ ‬أو‭ ‬إفشاء‭ ‬أسرار،‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬كان،‭ ‬ومن‭ ‬تحلى‭ ‬بالصبر‭ ‬لعقود‭ ‬سيتحلى‭ ‬بأخطر‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬“عبدالموجود”‭.‬

البعض‭ ‬يلومني‭ ‬لأنني‭ ‬لم‭ ‬أدافع‭ ‬بشراسة‭ ‬عن‭ ‬جيل‭ ‬السبعينات‭ ‬الشعري،‭ ‬لأنني‭ ‬لم‭ ‬أرد‭ ‬غيبة‭ ‬من‭ ‬رحلوا،‭ ‬ولم‭ ‬أنتصر‭ ‬لبقية‭ ‬المعاصرين،‭ ‬لأنني‭ ‬كنت‭ ‬رؤوفًا‭ ‬بمن‭ ‬ذُبِحوا،‭ ‬وحصيفًا‭ ‬مع‭ ‬من‭ ‬يطالبون‭ ‬بالقصاص،‭ ‬وعفيفًا‭ ‬أو‭ ‬هكذا‭ ‬يُخَيَّل‭ ‬لي‭ ‬تجاه‭ ‬من‭ ‬تجاوز‭ ‬حد‭ ‬التجاوز‭ ‬واعتدى،‭ ‬ومع‭ ‬من‭ ‬تسامح‭ ‬بحق‭ ‬الآخرين‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يمتلك‭ ‬هذا‭ ‬الحق‭.‬

هاتفني‭ ‬من‭ ‬هاتفني،‭ ‬واحتج‭ ‬من‭ ‬احتج،‭ ‬وطالبني‭ ‬بمواصلة‭ ‬الحملة‭ ‬ضد‭ ‬من‭ ‬أزهقوا‭ ‬أرواحنا‭ ‬ونحن‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭ ‬بالثأر‭ ‬ولو‭ ‬بعد‭ ‬حين،‭ ‬وبالانتظار‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬حيثيات‭ ‬الحكم‭ ‬مازالت‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬القضاة‭. ‬كتبت‭ ‬ردًا‭ ‬على‭ ‬الناقد‭ ‬الكبير‭ ‬البروفيسور‭ ‬أحمد‭ ‬فرحات،‭ ‬توضيحًا‭ ‬لا‭ ‬تلميحًا،‭ ‬تصريحًا‭ ‬لا‭ ‬تجريحًا،‭ ‬فالظاهرة‭ ‬مؤلمة‭ ‬والضحايا‭ ‬أمام‭ ‬ظل‭ ‬مكتبي‭ ‬بالعشرات،‭ ‬يطالبون‭ ‬برد‭ ‬الحقوق‭ ‬لأصحابها،‭ ‬وصون‭ ‬الحق‭ ‬“لمن‭ ‬استطاع‭ ‬إليه‭ ‬سبيلاً”،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬الرد‭: ‬شكرًا‭ ‬لك‭ ‬صديقي‭ ‬العزيز‭ ‬الناقد‭ ‬والأديب‭ ‬والمفكر،‭ ‬لعل‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬والتقصي‭ ‬ما‭ ‬يجعلنا‭ ‬نفسر‭ ‬لزوم‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يلزم‭ ‬منذ‭ ‬نصف‭ ‬قرن،‭ ‬لا‭ ‬أن‭ ‬نمشي‭ ‬كالقطيع‭ ‬خلف‭ ‬الثابت‭ ‬والمتحول،‭ ‬خلف‭ ‬شعارات‭ ‬التثوير‭ ‬البراقة،‭ ‬مشينا‭ ‬وكأننا‭ ‬نتعلم‭ ‬المشي،‭ ‬ومضينا‭ ‬مغمضي‭ ‬العينين‭ ‬وكأننا‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬نرى،‭ ‬ربما‭ ‬لأن‭ ‬أدونيس‭ ‬كان‭ ‬الأجرأ‭ ‬في‭ ‬الطرح،‭ ‬والأعمق‭ ‬في‭ ‬المجاز،‭ ‬وربما‭ ‬لأن‭ ‬شعره‭ ‬ونثره‭ ‬كانا‭ ‬موحيين‭ ‬للحد‭ ‬الذي‭ ‬دفع‭ ‬جيلنا‭ ‬الفاقد‭ ‬للرعاية‭ ‬والدعم،‭ ‬بأن‭ ‬ينصبوا‭ ‬أدونيس‭ ‬إمامًا‭ ‬عليهم‭. ‬

وعلى‭ ‬طريقة‭ ‬نزار‭ ‬عندما‭ ‬قال‭: ‬افرحوا‭ ‬أيها‭ ‬الرعية،‭ ‬لقد‭ ‬وليت‭ ‬اليوم‭ ‬حاكمًا‭ ‬عليكم،‭ ‬فاتبعوني،‭ ‬وأعدموا‭ ‬كل‭ ‬أولياء‭ ‬أموركم،‭ ‬واجعلوا‭ ‬مني‭ ‬ترياقًا‭ ‬لكم،‭ ‬وبعلاً‭ ‬لنسائكم،‭ ‬ورضوانًا‭ ‬لخطاياكم‭ ‬ووصاياكم‭ ‬وأضغاث‭ ‬أحلامكم،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬واقعنا‭ ‬من‭ ‬ينظر‭ ‬لمواقفنا‭ ‬السياسية،‭ ‬لأوضاعنا‭ ‬الحياتية،‭ ‬لحياتنا‭ ‬الأدبية،‭ ‬وعندما‭ ‬خرج‭ ‬الرجل‭ ‬من‭ ‬كهف‭ ‬مهيار‭ ‬الدمشقي‭ ‬و”قصائده‭ ‬الأولى”‭ ‬“بالثابت‭ ‬والمتحول”،‭ ‬بعد‭ ‬مقدمة‭ ‬طويلة‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬الحديث،‭ ‬كسرنا‭ ‬القوقعة،‭ ‬وخرجنا‭ ‬إلى‭ ‬الوجود،‭ ‬أقمنا‭ ‬الأفراح،‭ ‬وأطلقنا‭ ‬الرصاص‭ ‬في‭ ‬الهواء‭ ‬إيذانًا‭ ‬واحتفالاً‭ ‬بمولد‭ ‬مُنظر‭ ‬جديد،‭ ‬لم‭ ‬يعترضنا‭ ‬أحد،‭ ‬ولم‭ ‬يبلغ‭ ‬ضدنا‭ ‬عميل،‭ ‬وكانت‭ ‬أجهزة‭ ‬البحث‭ ‬الجنائي‭ ‬مشغولة‭ ‬في‭ ‬النيل‭ ‬من‭ ‬الشيوعيين،‭ ‬والقبض‭ ‬على‭ ‬المشاكسين‭ ‬والمتظاهرين‭ ‬بعد‭ ‬أحداث‭ ‬‮١٨‬‭ ‬و‮١٩‬‭ ‬يناير‭ ‬‮١٩٧٨‬‭.‬

تحركنا‭ ‬بحرية‭ ‬أكثر‭ ‬في‭ ‬معية‭ ‬ما‭ ‬تيسر‭ ‬من‭ ‬“إضاءة‭ ‬‮٧٧‬”،‭ ‬واجتمعنا‭ ‬في‭ ‬خوالي‭ ‬أيامنا‭ ‬ببيتي‭ ‬وبيت‭ ‬الشاعر‭ ‬الراحل‭ ‬دكتور‭ ‬محمود‭ ‬نسيم،‭ ‬وانضم‭ ‬إلينا‭ ‬أو‭ ‬انضممنا‭ ‬إليهم‭ ‬ورافقناهم‭ ‬بحب‭ ‬واقتناع،‭ ‬مجموعتي‭ ‬“إضاءة”‭ ‬و”أصوات”،‭ ‬رفعت‭ ‬وحلمي‭ ‬وجمال‭ ‬القصاص‭ ‬وحسن‭ ‬طلب‭ ‬وعبدالمنعم‭ ‬رمضان‭ ‬عبيد‭ ‬والصيدلي‭ ‬الشاعر‭ ‬محمد‭ ‬سليمان،‭ ‬وعلى‭ ‬الهوامش‭ ‬المؤثرة‭ ‬والفاعلة‭ ‬محمد‭ ‬خلاف‭ ‬ووليد‭ ‬منير‭ ‬ومحمد‭ ‬الشحات‭ ‬وأسامة‭ ‬الخولي،‭ ‬وأحمد‭ ‬عنتر‭ ‬مصطفى،‭ ‬وبطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يقرأ‭ ‬ويكتب‭ ‬ويجمعنا‭ ‬إما‭ ‬في‭ ‬بيته‭ ‬أو‭ ‬بيوتنا‭ ‬جميعًا،‭ ‬المؤرخ‭ ‬والشاعر‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يتكرر‭ ‬في‭ ‬العمر‭ ‬مرتين‭ ‬شعبان‭ ‬يوسف‭.‬

عكفنا‭ ‬جميعًا‭ ‬لدراسة‭ ‬ظاهرة‭ ‬أدونيس‭ ‬الفكرية‭ ‬والشعرية،‭ ‬سهرنا‭ ‬الليالي،‭ ‬امتلأت‭ ‬ساحتنا‭ ‬المتاحة‭ ‬بالندوات‭ ‬والإرهاصات،‭ ‬قصر‭ ‬ثقافة‭ ‬الريحاني‭ ‬حيث‭ ‬التقينا‭ ‬بالشاعر‭ ‬والأديب‭ ‬الدكتور‭ ‬الراحل‭ ‬أحمد‭ ‬الحوتي،‭ ‬والروائي‭ ‬الكبير‭ ‬إبراهيم‭ ‬عبدالمجيد،‭ ‬ويوسف‭ ‬ابورية،‭ ‬وشاعر‭ ‬العامية‭ ‬الموهوب‭ ‬ماجد‭ ‬يوسف،‭ ‬تمامًا‭ ‬مثلما‭ ‬كان‭ ‬يجمعنا‭ ‬حزب‭ ‬التجمع،‭ ‬خصوصا‭ ‬في‭ ‬فرعه‭ ‬الذي‭ ‬حمل‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬اسم‭: ‬ورشة‭ ‬الزيتون،‭ ‬أطال‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬عمرها‭ ‬وعمر‭ ‬رمزها‭ ‬الروحي‭ ‬شعبان،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬اللقاءات‭ ‬في‭ ‬قصر‭ ‬ثقافة‭ ‬قصر‭ ‬النيل‭ ‬والمركز‭ ‬الثقافي‭ ‬الأسباني‭ ‬مع‭ ‬الزميل‭ ‬والشاعر‭ ‬طلعت‭ ‬شاهين‭.‬

جميعنا،‭ ‬جميعنا‭ ‬كنا‭ ‬نلتقي‭ ‬لنناقش‭ ‬الظواهر‭ ‬الأدبية‭ ‬والشعرية‭ ‬والفكرية‭ ‬وحتى‭ ‬السياسية،‭ ‬وكنا‭ ‬نعرض‭ ‬أشعارنا‭ ‬على‭ ‬بعضنا‭ ‬البعض،‭ ‬ويشهد‭ ‬علي‭ ‬الله‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬الندوات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬على‭ ‬“قد”‭ ‬إمكانياتنا،‭ ‬بالتحديد‭ ‬ليلة‭ ‬رأس‭ ‬السنة،‭ ‬وفي‭ ‬منزل‭ ‬شعبان‭ ‬يوسف‭ ‬بعين‭ ‬شمس‭ ‬تجمعنا‭ ‬أنا‭ ‬وشعبان‭ ‬ومحمود‭ ‬نسيم‭ ‬وحلمي‭ ‬سالم،‭ ‬ومحمود‭ ‬الطويل‭ ‬وأسامة‭ ‬الخولي‭ ‬وجمال‭ ‬القصاص،‭ ‬وكنت‭ ‬قد‭ ‬انتهيت‭ ‬من‭ ‬كتابة‭ ‬أربع‭ ‬قصائد‭ ‬جديدة،‭ ‬لضيق‭ ‬الوقت‭ ‬عنونتها‭ ‬بالأولى‭ ‬والثانية‭ ‬والثالثة،‭ ‬والرابعة،‭ ‬وأذكر‭ ‬أن‭ ‬الجميع‭ ‬سهر‭ ‬معي‭ ‬عليها‭ ‬تشريحًا‭ ‬وتقييمًا‭ ‬وانتقادًا‭ ‬بالذات‭ ‬من‭ ‬حلمي‭ ‬سالم‭ ‬ومحمود‭ ‬نسيم‭ ‬وشعبان‭ ‬والقصاص،‭ ‬رغم‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬أدونيس‭ ‬قد‭ ‬تربع‭ ‬في‭ ‬قلوبنا،‭ ‬ولدرجة‭ ‬أن‭ ‬الزملاء‭ ‬كانوا‭ ‬يضعون‭ ‬تنظيراته‭ ‬على‭ ‬مناضد‭ ‬البحث‭ ‬وهم‭ ‬يستمعون‭ ‬إلى‭ ‬قصائدي‭ ‬وإذا‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬متوافقة‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬أدونيس‭ ‬أم‭ ‬لا‭. ‬يتبع‭.‬

 

*كاتب‭ ‬بحريني‭ ‬والمستشار‭ ‬الإعلامي‭ ‬للجامعة‭ ‬الأهلية