الوظيفة أم التوظيف في العصر الحديث؟

| د. خالد الوزني

من‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬الثورة‭ ‬المعرفية‭ ‬الحديثة‭ ‬حولت‭ ‬النظرة‭ ‬إلى‭ ‬متطلبات‭ ‬سوق‭ ‬العمل‭ ‬من‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الوظيفة‭ ‬إلى‭ ‬ثقافة‭ ‬جديدة‭ ‬قوامها‭ ‬التوظيف‭ ‬الذاتي،‭ ‬وخلق‭ ‬الوظيفة،‭ ‬والعمل‭ ‬الحر‭ ‬غير‭ ‬المرتبط‭ ‬بعقود‭ ‬دائمة،‭ ‬أو‭ ‬وظائف‭ ‬مستمرة،‭ ‬بل‭ ‬عمل‭ ‬حر‭ ‬مؤقت،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬الدائم،‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬متطلبات‭ ‬التوظيف‭ ‬التقليدي‭ ‬من‭ ‬ساعات‭ ‬دوام،‭ ‬ومكان‭ ‬عمل،‭ ‬وطقوس‭ ‬الزي،‭ ‬والتأمين‭ ‬الصحي،‭ ‬والتأمينات‭ ‬الإجتماعية،‭ ‬الإجازات‭ ‬المبرمجة،‭ ‬وغيرها‭. ‬ثقافة‭ ‬العمل‭ ‬الحر‭ ‬بعقد‭ ‬وتعاقد‭ ‬مؤقت‭ ‬عن‭ ‬بعد،‭ ‬باتت‭ ‬تشغِّل‭ ‬نحو‭ ‬ربع‭ ‬القوى‭ ‬العاملة‭ ‬الحالية‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬المتقدم،‭ ‬وبات‭ ‬ما‭ ‬يزد‭ ‬على‭ ‬162‭ ‬مليون‭ ‬شخص‭ ‬ينخرطون‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬لا‭ ‬تتطلب‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مهارات‭ ‬محددة،‭ ‬من‭ ‬اللغة،‭ ‬والرقمنة،‭ ‬والاتصال‭ ‬والتواصل،‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬متنوعة‭. ‬وقد‭ ‬قدَّرت‭ ‬بعض‭ ‬الدراسات‭ ‬العالمية‭ ‬أن‭ ‬متوسط‭ ‬نمو‭ ‬الوظائف‭ ‬عن‭ ‬بعد،‭ ‬المؤقت‭ ‬منها‭ ‬والدائم،‭ ‬سينمو‭ ‬بنحو‭ ‬17‭ % ‬سنويا‭ ‬حتى‭ ‬العام‭ ‬2025،‭ ‬وأن‭ ‬ذلك‭ ‬النمو‭ ‬شهد،‭ ‬وسيشهد،‭ ‬معدلات‭ ‬نمو‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭ ‬بالعقد‭ ‬الحالي‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬المتقدم،‭ ‬إلى‭ ‬الدرجة‭ ‬الذي‭ ‬نمت‭ ‬به‭ ‬الوظائف‭ ‬عن‭ ‬بعد،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يُسمى‭ ‬بالوظائف‭ ‬المؤقت‭ ‬عبر‭ ‬الإنترنت‭ ‬GIG،‭ ‬في‭ ‬اليابان‭ ‬بما‭ ‬يتجاوز‭ ‬500‭ % ‬منذ‭ ‬جائحة‭ ‬كوفيد‭ ‬19‭ (‬كورونا‭) ‬حتى‭ ‬الآن‭. ‬أما‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬فقد‭ ‬قدَّرت‭ ‬دراسة‭ ‬للبنك‭ ‬الدولي‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬نمو‭ ‬مجال‭ ‬العمل‭ ‬عن‭ ‬بعد،‭ ‬عبر‭ ‬الوظائف‭ ‬المؤقتة‭ ‬والدائمة،‭ ‬بنحو‭ ‬20‭ % ‬سنويا‭ ‬حتى‭ ‬العام‭ ‬2025‭. ‬كما‭ ‬أظهرت‭ ‬دراسة‭ ‬ميدانية،‭ ‬عبر‭ ‬الاستطلاع‭ ‬المباشر،‭ ‬أن‭ ‬نحو‭ ‬52‭ % ‬من‭ ‬المستجيبين‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭ ‬يفضلون‭ ‬الانخراط‭ ‬بوظائف‭ ‬عن‭ ‬بعد،‭ ‬مؤقتة‭ ‬أو‭ ‬دائمة،‭ ‬دون‭ ‬الانتظام‭ ‬بسوق‭ ‬الوظائف‭ ‬بمفهومه‭ ‬التقليدي‭. ‬وقد‭ ‬ظهر‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬أخرى،‭ ‬أن‭ ‬حجم‭ ‬الدخل‭ ‬من‭ ‬الوظائف‭ ‬عن‭ ‬بعد،‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬نحو‭ ‬5‭ ‬مليارات‭ ‬دولار‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬وملياري‭ ‬في‭ ‬الإمارات،‭ ‬ونحو‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭ ‬في‭ ‬السعودية‭. ‬الشاهد‭ ‬مما‭ ‬سبق،‭ ‬أن‭ ‬سوق‭ ‬العمل‭ ‬بمفهومها‭ ‬التقليدي،‭ ‬بنظمها‭ ‬الرسمية،‭ ‬وقواعدها‭ ‬الوظيفية،‭ ‬ومتطلباتها‭ ‬الإجرائية،‭ ‬بل‭ ‬وقواعد‭ ‬سلوكها‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والأخلاقية،‭ ‬في‭ ‬تغيُّر‭ ‬شديد‭ ‬التوسع،‭ ‬والانفتاح،‭ ‬وباتت‭ ‬تحكمها‭ ‬قواعد‭ ‬غير‭ ‬تقليدية‭ ‬لا‭ ‬يحكمها‭ ‬مكان‭ ‬عمل،‭ ‬أو‭ ‬طقوس‭ ‬وظيفة،‭ ‬أو‭ ‬زمان‭ ‬أو‭ ‬مكان‭ ‬محدد‭.‬

‭ ‬المستقبل‭ ‬يتطلب‭ ‬من‭ ‬القائمين‭ ‬على‭ ‬تنظيم‭ ‬سوق‭ ‬العمل‭ ‬البدء‭ ‬بالتفكير‭ ‬جلياً‭ ‬في‭ ‬أليات‭ ‬تنظيم‭ ‬جديدة،‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬الفكر‭ ‬التقليدي،‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬ربط‭ ‬التعليم‭ ‬بالعمل،‭ ‬وتنظيم‭ ‬النقابات‭ ‬والسيطرة‭ ‬عليها،‭ ‬وفكر‭ ‬تصاريح‭ ‬العمل‭ ‬والتفتيش‭ ‬عن‭ ‬المتجاوزين،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬فكر‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬إيرادات‭ ‬رخص‭ ‬العمل،‭ ‬وحتى‭ ‬ضرائب‭ ‬الدخل‭ ‬من‭ ‬العمل‭. ‬

سوق‭ ‬العمل‭ ‬ستنظمها‭ ‬متطلبات‭ ‬عقود‭ ‬ثنائية،‭ ‬خفية‭ ‬أحياناً،‭ ‬تحكمها‭ ‬المهارات‭ ‬الوظيفية‭. ‬سوق‭ ‬موقعها‭ ‬الحقيقي‭ ‬فضاء‭ ‬المعلومات‭ ‬والإنترنت،‭ ‬خصوصا‭ ‬على‭ ‬منصات‭ ‬التواصل،‭ ‬المهنية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء‭. ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬الذي‭ ‬تُشكل‭ ‬فيه‭ ‬الكتلة‭ ‬السكانية‭ ‬ممن‭ ‬هم‭ ‬بين‭ ‬التعليم‭ ‬الجامعي‭ ‬وسن‭ ‬الطفولة‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬50‭ %‬،‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬بؤر‭ ‬العالم‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬تطوير‭ ‬سياسات‭ ‬سوق‭ ‬عمل‭ ‬تجعله‭ ‬الأكثر‭ ‬استفادة‭ ‬من‭ ‬استقطاب‭ ‬وظائف‭ ‬للشباب‭ ‬من‭ ‬فضاء‭ ‬سوق‭ ‬العمل‭ ‬العالمية،‭ ‬وليس‭ ‬المحلية‭ ‬أو‭ ‬الإقليمية‭ ‬فحسب‭. ‬صنّاع‭ ‬القرار‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الموارد‭ ‬البشرية‭ ‬مطالبون‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭ ‬أن‭ ‬يحفزّوا‭ ‬الشباب‭ ‬نحو‭ ‬تطوير‭ ‬كفاءاتهم‭ ‬ومهاراتهم‭ ‬للدخول‭ ‬إلى‭ ‬المنافسة‭ ‬على‭ ‬المعروض‭ ‬عالميا،‭ ‬دون‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬الهجرة،‭ ‬ودون‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬صفوف‭ ‬الانتظار،‭ ‬ودون‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬يتوسط‭ ‬لهم‭ ‬بوظيفة‭ ‬دخلها‭ ‬لا‭ ‬يحقق‭ ‬أدنى‭ ‬متطلبات‭ ‬طموح‭ ‬الشباب‭ ‬وأمالهم‭. ‬الفكر‭ ‬الجديد‭ ‬هو‭ ‬تأهيل‭ ‬الشباب‭ ‬لخلق‭ ‬الوظيفة،‭ ‬وليس‭ ‬التوظيف‭ ‬والبحث‭ ‬عنه‭.‬