التكاره بين المثقفين العرب

| رضي السماك

لعلي تناولت ذات مرة مرض الغيرة والتحاسد البغيض الذي ظل وما برح متفشياً في أوساط الفنانين، خصوصاً بين نجوم السينما والطرب، وذكرت أن هذا المرض وإن كان متفشياً بوجه خاص بين هؤلاء النجوم، إلا أنه معروف أيضا، بشكل أو بآخر، في صفوف “نجوم” الأدباء والكتاب والمثقفين، الساطعة منها أو المهمشة الأقل سطوعاً. بيد أن الكتابات والدراسات التحليلية حول أسباب تفشيها بين المثقفين - والذين يُفترض أنهم من حملة المشاعل والأكثر تحضراً وعقلانية وإنسانية - ما زالت محدودة. ولعل الكتاب الصادر عن دار “صوفيا” الكويتية في العام الماضي للكاتب العراقي جمال حسين، تحت عنوان “لماذا يكره المثقفون أنفسهم؟”، من أكثر الكتب العربية جرأة في التصدي لتعرية هذا الوباء المغلف بطبقة رقيقة من النفاق المخاتل، والذي لئن انطلى على كثرة من القراء، فإنه لا ينطلي على المثقفين المستهدفين. بيد أن المؤلف، وهو روائي ومن حملة الدكتوراه في الفيزياء النووية والرياضيات من جامعة موسكو، لم يحصر الموضوعات التي تناولها على عنوان كتابه، إذ اشتمل على عناوين شتى تدخل في سياق ازدواجية المثقف العربي وانفصام أقواله وكتاباته والمبادئ - التي يزعم أنه يؤمن وينادي بها - عن أفعاله ومسلكياته اليومية، ومن جملة تلك العناوين التي أوردها المؤلف على سبيل المثال لا الحصر: “أن تكون محرراً ثقافياً، مستقبل الثقافة، الثقافة المقاومة، المثقف الشكاك، ثقافة السرقة”. يضرب المؤلف بأمثلة على الجذور التاريخية لانتشار هذا الوباء في تاريخنا الحديث بين الأدباء والمثقفين العالميين، فيذكر بما كان بين الأديبين الروسيين تولستوي وتورغينيف من أحقاد وتحاسد امتد حتى وفاتهما. ويقول إن ماركيز “تلقى لكمات وشتائم من يوسا.. ويضيف مثالاً عندما يريد أديب “تدمير” أديب آخر: “فعندما سألوا بورخيس عن رأيه في ماركيز أجاب: “ليس سيئاً”.

وعن “مئة عام من العزلة” سؤل خورخي لويس فأجاب: هناك 50 عاماً متبقية! يقصد نساها ماركيز. المثقفون كما يزعم المؤلف دون مواربة: أساتذة الشللية والانتقاء وسادة المعايير المزدوجة، ويملكون حصرياً “عبادة الفرد” قبل الساسة.. هم أول من صنع الأصنام التي يأكلونها.

كما يضيف المؤلف: إن أخطر عدو للمثقف، نظيره المثقف الذي يمنع كتبه وحتى يحرقها. وعلى هذا القياس بوسع المؤلف أن يضيف: إن ما هو أكثر إيلاما لجمهرة واسعة من المثقفين العرب أن نظراء لهم في الصفة وضعوا أنفسهم موضع الرقيب الصحافي بحرفية عالية، فيمنعون بجرة قلم كتباً أو دراسات أو مقالات لهم، مهما تميزت بغنى محتوياتها أو حجم الشقاء المضني الذي شقي بعضهم في كتابتها ساعات أو أياماً وليال، لا بل حتى شهوراً، لا لشيء سوى إرضاء نزعة الحسد والغيرة، ويبلغ بهم التعالي درجة التهرب من إبداء الأسباب! ويبدو أن المؤلف هو نفسه من خبِر الظاهرة، ولُدغ من أفاعي تلك الفئة من المثقفين والأدباء في بلاده، ويعبّر عن ذلك بمرارة قائلا: “ربما لهذه الأسباب، أتجنب – شخصياً - المثقفين والأدباء بشكل خاص، فهؤلاء لا تنبت في تربتهم الروح الرياضية، واستبدلوها بالحماقة والحسد، يركلون بعضهم في السر، ويعتقدون ذلك تفوقاً”. ورب قائل: “من الخطأ تعميم هذه الظاهرة المرضية على كل المثقفين، وهذا صحيح، لكن لا أحسب المرء بحاجة إلى بذل جهد كبير لإثبات أن المحصنين منها ليسوا سوى استثناء وقلة قليلة في عالمنا الثقافي العربي المريض”.

- كاتب بحريني