خربشة ومغزى.. "الهند... أرض لكل عجيب... والغلو أحد تحدياتها"

| احمد عبدالله الحسين

الهند زُبْدَة جميع العوالم وخلاصة ناطقة لأدوار تأريخ عريق، وصورة صادقة للأطوار المترجحة بين البدائية الأولى والحضارة الحديثة. في الهند نجد الآثار الدينية والفنية والأدبية ما يبلُغ قِدَم بعضه نحو ثلاثة آلاف سنة. الهند تَمثَّلت لخيال الأمم أرضا لكل عجيب، فكانت عُرضة للمغازي الأجنبية منذ القديم وكان الأجنبي إذا ما دخلها أستغلها وتنعم بخيراتها. 

ويفتح الإنكليز بلاد الهند الواسعة الزاخرة بالسكان في القرن الثامن عشر بمال الهند وجند الهند، فيسلكون في استعمارها طريق نفع إنكلترا دون الهند، فيمتصون بركات الهند ليرسلوها إلى بريطانيا. وحين التمكن من الهند يحتلُّ البريطان مصر فلا يَجْلون عنها، ويفصلوا السودان عن مصر، بل ويقتطع الإنكليز في القرن العشرين جنوب الشام فلسطين، فيمعنون في تهويده مُمَثِّلِين في أهله العرب مأساة أندلسية ثانية.

والهند قطرٌ عظيم يسكنه مئات الملايين من الآدميين، والهند بلدٌ واسع تملّكهُ الإنكليز بألف موظف بريطاني، وبجيش لا يزيد جنوده على مئة ألف. هكذا تأريخ الهند ليس قصصا لماض أدبر إلى الأبد، إنما هو تأريخ ينطوي أيضا على مجهولات هائلة.

لا أظن عاقلا ينشد مستقبل حضاري وأثر في عالمنا اليوم يصطحب معه الغلاة وأصحاب الحسابات الضيقة، والهند لا زالت تنكأ بأمثال من يضيّق على المسلمين الذين هم أُصلاء وأصحاب إرث حضاري ناطق إلى اليوم وهو مفخرة لبلاد الهند. 

معرفة ما آلت اليه الهند فترة استعماره، وما عقب ذلك من تداعيات يُذكر التالي؛  التربية الغربية الاستعمارية في الهند أضفت إلى تشكيل سَخِط شعبي لصعوبة ملائمتها لمزاج الهنود الذين أدركوا حينها سوء الحظ والارتباك بسبب تلك التربية الغربية مع موروثهم الثقافي. هذا ما دفع المثقف الهندي أن يتألم بمرارة من سوء حال الذي وصل اليه، فأدت هذه الظاهرة إلى بوادر الانتقام، والتخلص من السلطة الإنكليزية التي رَبَّتْه بهجين المفاهيم، فكان الأمل معقود عند شعوب الهند أن تحكم نفسها بنفسها، وتنفك من قبضة المستعمر الذي جثم على بلادهم مدة طويلة. 

هناك وجد الهنود أنفسهم حين التخلص من المستعمر أنهم عاجزون أن يؤلفوا استدامة انسجام لأمتهم، لأنهم شعوب تنتمي إلى عروق مختلفة تتنوع في تقاليدها ومقدساتها. هذا العجز هو ما جذره المستعمر البريطاني والغلاة استغلوا من خلال خطط في تذكيه العداء بين كُبرى الطوائف. 

حينما كُسرت شوكة الحكم المغولي المسلم أدى هذا بالتالي إلى إضعاف وانهيار دولة المغول من قبل إنكلترا خلال تطبيقها سياسة "فرق تسد"، فكثرت المذابح بين المسلمين والهندوس وكذلك السيخ حتى عمَّت الفوضى بلاد الهند. صراع الشرق والغرب والهوة التي بينهما آنذاك أضفت إلى ما أكتنف الهند من عنفوان، ورغبة في التحرر، مع رغبة استعماريه إنكليزية في تثبيت موطئ قدم في العالم الاسلامي، والتي منها اندفاع شهية بريطانيا لتركة السلطنة العثمانية، وإبعاد ثقل الهند عن الدوران في فلك المسلمين. 

قدَّرت بريطانيا بقراءتها للمدى البعيد، أنها لا تستطيع أن تُبقي سيطرتها العضوية أو اثرها على بلاد كالهند، فبذرت بذور بعض حركات مقاومة فصلتها على مقياسها، فكان لها يد داعمة في تأسيس حزب المؤتمر الوطني الهندي عام 1885م. الذي شكل مظلة لاقت دعم هندوسي ومنافسة لاي حركات تحررية يتزعمها مسلمون، حيث انشأ المسلمون حزب الرابطة الإسلامية بزعامة محمد علي جناح الذي تأسس في عام 1906م. بعدها توالت أحداث وحركات عنف بين الطوائف أخلت بميزان الأمن والقوى داخل الهند، وسالت دماء مذابح عرقية ودينيه التي أطالت أمد الإنكليز في تعميق خططهم لما بعد خروجهم. 

برز لاحقا موهنداس كرمشاند غاندي (1869 - 1948م)، وهو السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال تلك الفترة، وكان رائدا للساتياغراها وهي مقاومة الاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل، والتي أدت في النهاية بقبول بريطانيا إلى استقلال الهند عام 1947م. غاندي بفعله هذا ألهم الكثير من حركات الحقوق المدنية والحرية في العالم، وأصبح غاندي رمزاً خالدا في ذاكرة الهنود تم اغتياله عام 1948م من قبل متطرف هندوسي. 

هناك مرويات وأحداث تذكر احتضان الإنكليز بذكائيه إلى ما ستؤول إليه الهند ضمن رؤية حركة اللاعنف التي تبناها حزب المؤتمر الوطني الهندي، وإبعاد النفوذ المُسيطر الاسلامي الذي كان فتيل ثورات توالت على الإنكليز لطردهم من الهند. هذا المصير في الاستقلال حينما تحقق أفرز حركات انفصال وتقسيم للهند لاقى مُراد المستعمر، فتكونت باكستان عام 1947م كدولة مستقله بفارق يوم واحد عن استقلال الهند، وانفصلت بنغلادش من باكستان عام 1971م.

هكذا انطوت حقبة حكم المسلمين للهند التي دامت لأكثر من ثمانية قرون، ابتداء من القرن الحادي عشر ميلادي.  تعاقبت عليها أسر حاكمة نعمت خلالها الهند بالأمن والسلام وسعي لمقاصد المساواة. ازدهرت هذه القرون بنتاج حضاري كآثار باقية الى اليوم تخطف الابصار.  الهند لا زالت قباله تحدي في تجسيد اللحمة الوطنية، وكف يدي الغلاة والتسييس الذي ما فتئ يطال المسلمين خصوصا في بعض مساجدهم التاريخية وأرثهم وتقاليدهم الإسلامية، والتطلع أن تكون الهند دولة تتطور وتتلمس معاني شعارها الوطني الذي يقول؛ "الحقيقة وحدها تنتصر"