الحرب على غزة: حالة استثنائية تقود نحو نهايات غير تقليدية (1-3)

| عبيدلي العبيدلي

على نحو غير متوقع، وعلى وجه الخصوص عندما يدخل المراقب في التفاصيل، طال أمد حرب غزة على المستوى الزمني. كما تعقّدت، بفضل فظاعة وقائعها، وتطور أحداثها، درجة مستوى تدخل القوى العالمية، والإقليمية، بما فيها العربية، بشكل غير معهود، وغير مسبوق، فيها.  على نحو مواز، تنوعت المواجهات العسكرية والسياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين بطريقة غير تقليدية. كل هذه الظواهر غير الكلاسيكية، جعلت من هذه الحرب حالة استثنائية. كما أرغمت هذه السمات التي اكتسبتها هذه الحرب، الكثير من المؤسسات، بما فيها بعض مراكز الدراسات الاستقرائية للمستقبل، على التوصل إلى قناعات، شبه راسخة، أن هذه المواجهة لم تعد حرب تحرير تقليدية، ولا مواجهة بين طرفين على ساحة مشتركة. وهذا عامل آخر يضع الحرب على غزة في خانة “الحالة الاستثنائية”.  من هنا أفرزت هذه الحالة الاستثنائية، وبشكل تلقائي مفاجئ، مجموعة تساؤلات غير مسبوقة تبحث عن المواصفات والسمات التي تجعل من حرب غزة حربًا استثنائية بالنسبة لطرفي الصراع: الفلسطيني والإسرائيلي على حد سواء.  يصاحب تلك التساؤلات، استفسارات أخرى تحاول الوصول إلى إجابات محددة عن النهاية التي ستؤول لها هذه الحرب على المستويين القريب العاجل، والبعيد المتأخر.  ومن هنا تفرض الحرب على غزة على من يريد تشخيص أسبابها، والخروج بنتائج حول خطوط سير معاركها، أن يفكر خارج الصندوق التقليدي الذي دأبنا على حصر أنفسنا بين جدرانه.  الخصائص التي تجعل الحرب على غزة استثنائية: الاندلاع المباغت للصدام: من تحت بساط هدوء نسبي استثنائي، باغتت المقاومة الفلسطينية العدو الصهيوني بهجوم استثنائي في طبيعته، أربك ذلك العدو. وبغض النظر عن الاجتهادات المتفاوتة التي سعت إلى تفكيك طبيعة، وأهداف، ومن ثم تداعيات هذا الهجوم، تبقى الحقيقة الصامدة الوحيدة أن الهجوم قد أربك العدو، وكبّده خسائر فادحة نسبيًّا، ودحض الكثير من الادعاءات الصهيونية، وفي مقدمة كل ذلك تفوقها الأمني، وفاعلية “القبة الحديدية”. وفوق هذا كله هشاشة جاهزية المؤسسة الصهيونية وقدرتها على التفاعل مع مثل هذه المفاجأة، التي أقدمت عليها مجموعة مسلحة، لا تمتلك مؤسسة عسكرية تديرها دولة، وليس بحوزتها الفضاء الاستراتيجي الملائم لحرب عصابات طويلة الأمد. ولا تمتلك خلفية دفاعية طبيعية تمكنها من استخدام تكتيكات حرب العصابات في الكر والفر والتخفي. كل ذلك يجعل من اندلاع الحرب على غزة حالة استثنائية في تاريخ حرب العصابات التحررية.      التدخل العالمي: أضافت المشاركة المباشرة للقوى العالمية في معسكري طرفي الصراع طبقة جديدة من التعقيد. ويشمل ذلك المساعدات العسكرية والدعم السياسي، والمناورات الدبلوماسية التي لم نشهدها على هذا النطاق في النزاعات السابقة. كل هذه المناورات بين القوى العظمى والمتوسطة الحجم الدولية، كشفت الضعف الذي أخذ يدب في عضلات تلك الدول، التي لم يعد في وسعها، كما كانت عليه في السابق، فرض الحلول التي تخدم مصالحها، دون أخذ الاعتبار لمصالح طرفي الصراع المحلي. لكن في المقابل، ظهرت بعض الاستثناءات في هذا المجال، لعلّ الأبرز بينها الأحكام التي صدرت عن المحكمة الجنائية الدولية، ومحكمة العدل الدولية، والتي اعتبرها الكثيرون خطوة استثنائية غير مسبوقة في تاريخ مثل هذه المؤسسات الدولية. تصاحبها تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة أنتونيو مانويل دي أوليفيرا غوتيريش البرتغالي الجريئة، وهي الأخرى استثنائية وغير مسبوقة في تاريخ مواقف الأمناء العامين لهذه المنظمة الدولية.  الترهل العربي على المستويين السياسي والعسكري: وهو الآخر ترهل استثنائي على المستويين الرسمي والشعبي. فعلى الرغم من الصمود الفلسطيني غير المتوقع، وغير المسبوق في تاريخ حركات التحرر، بما فيها العربية، وعلى الرغم، أيضًا، من درجة الوحشية الصهيونية غير المحدودة، إلا أن المشاهد يراقب ضمورًا عربيًّا يتناسب عكسيًّا مع المد الثوري غير المسبوق الذي تمارسه حركة المقاومة الفلسطينية. ومن الضرورة بمكان التشديد هنا على أن الترهل الشعبي العربي، يتجاوز بمراحل نظيره الرسمي. ولو حاولنا المقارنة من أجل الوصول إلى المقاربة، بوسعنا استرجاع حالة النهوض الشعبي العربي في حالات الثورة الجزائرية، العربية الهوية بأبعادها الإسلامية، والموقف العربي الشعبي من ثورات عالمية مثل الثورة الفيتنامية، لتمكنا من من تشخيص حالة التردي التي وصلت إليها حركة التحرر العربية المعاصرة، في شقها الشعبي.     التشرذم السياسي/ العسكري في المعسكر الصهيوني: انفجر المعسكر الصهيوني وعانى من تشرذم سياسي كبير وصراع داخلي داخل المؤسستين المدنية والعسكرية الصهيونيتين على حد سواء، ولدهما، على نحو موازٍ الصمود الفلسطيني، رغم الخسائر البشرية والإنسانية الجسيمة التي أفرزها هذا الصمود. ظهر ذلك التشرذم الصهيوني على نحو جلي في المظاهرات المستمرة من قبل أهالي المحتجزين الإسرائيليين التي وصلت إلى حد الصدامات العنيفة المتكررة مع أجهزة الأمن الصهيونية. لكن ما هو أسوأ على المستوى الصهيوني هو تلك الخلافات العمودية الشديدة التي عرفتها مؤسسات الحكم الصهيونية، وفي مقدمتها الحكومة والمؤسسات العسكرية والأمنية التابعة لها. وأكثر من ذلك ينبغي ملاحظة ضمور النفوذ الصهيوني في مؤسساته الدولية، التي عبرت عنه مجموعة مظاهرات الشجب المعادية لسياسات الكيان الصهيوني في مواجهة المقاومة الفلسطينية التي اجتاحت العواصم الغربية، وتمركزت في أروقة الجامعات والمؤسسات التعليمية الأخرى، بما فيها تلك المؤسسات النخبوية.