خربشة ومغزى.. "الأندلس... أفول بعد ذروة تفوق في وسط أوروبا"

| احمد عبدالله الحسين

الأندلس أفول بعد ذروة تفوق في وسط أوروبا؛ عنوان تسلسل من مقالات منشورة سابقة، وآخرها كان عن ولادة الدول الأوربية بعد تناحر بين أمراء الإفرنج، وهم من ذرية الإمبراطور شارلمان، وهذا تزامن مع ضعف دبّ داخل الأندلس وجلب الأطماع لها.

المعروف تاريخيا أنه منذ قيام الإمارة الأموية تحتم على الأندلسيين الاعتماد على أنفسهم لرد كل القوى التي حاولت غزو الأندلس سواء الإفرنج أو النورمان. ولعل من الصعب النظر بغير الإعجاب إلى هذه السلطة التي أرسى عبد الرحمن الداخل دعائمها خلال حكمه من 756-788م، إذ استمر عمرها ثلاثة أضعاف عمر الخلافة الأموية في دمشق. وفاقت زمنيا السلطة الفعلية للخلافة العباسية. بينما بقيت غرناطة بعد 234 سنة من اجتياح المغول مدينة السلام بَغْداد. الأندلس في ذروتها كانت أيقونة للعالم ومنه الأوربي الذي أستمر حتى بداية القرن السابع عشر، تركت إرث في العلوم والآداب والفلسفة والفنون والزراعة والصناعة والتجارة والعمارة معظمها ناطق إلى اليوم، بل تاريخ يستنهض الدرس والعبرة لحاضر ومستقبل النهضات في مسيرة البلدان. 

وهذا غيض من فيض لبعض ما كانت عليه الأندلس تلك الأزمان مثلا؛ غرناطة وبلنسية كانتا الاثنتين من أخصب بقاع أوروبا، والأكبر مصدر للزعفران، والأهم في تربية دودة القزّ وصناعة منسوجات الحرير. وطليطلة تفوقت في صناعة الأسنة والرماح والسيوف، ومثلها شاطبة في إنتاج الورق التي كانت حينها قليلة. أما الدينار القرطبي الذي سكة عبد الرحمن الداخل كان من أقوى العملات في كثير من دول أوروبا. 

الأندلس حكايتها ذات شجون، طوتها أحداث زمان مضى، الآلام نهشتها وأخطار داخلية عصفت بها عبر مراحل عدة، فتحت شهية أطماع دول أوربية تشكلت من مخاض بعد شارلمان.

كان التنافس الذي دبّ بين ملوك الطوائف من العرب والبربر مع الضغوط الخارجية المتمثّلة في الممالك المسيحية التي قويت سببا في تفجر الصراعات الداخلية. ملوك الطوائف هؤلاء هم حكموا في الفترة التاريخية بين 1092/1023م التي بدأت بعد سُقُوط الدولة الأموية في الأندلس على يد الأمازيغ (البربر) في العقدين 1020-1030م حينها بدأ كل أمير من أمراء الأندلس بتأسيس دويلة منفصلة يحكمها هو وأهله وذويه كان عددها 22 دويلة. أهمها غرناطة وإشبيلية وقرطبة والمرية وبلنسية وطليطلة وسرقسطة والبرازين والبداجوز وبلنسية ودانية والبليار ومورور التي ورثت ثراء دولة الأندلس. 

ومهما كانت الدوافع التي أدت إلى سقوط الأندلس، فلا شك أن هذا التناحر الداخلي وإعلاء مصالح السلطة على مصالح الأمة كان درس عرفه الأندلسيون لا يُنسى، وهو ماضي يتكرر. عبرة أتت متأخرة حينما كتب المتوكل بن الأفطس أحد ملوك الطوائف، وحاكم بطليوس إلى ألفونسو السادس ملك قشتاله وهي شمال غرب إسبانيا الذي أستحل طليطلة عام 1085م، وحول مسجدها الكبير إلى كاتدرائية وصلى فيه قداس الشكر، وأصبحت طليطلة بعدها عاصمة قشتاله المسيحية، قال الأفطس لألفونسو؛ "أما تعييرك للمسلمين فيما وهي من أحوالهم فالبذنوب المركوبة، ولو اتفقت كلمتنا مع سائرنا من الأملاك علمت أي مصاب أذقناكم كما كانت أباءكم تتجرعه"

قيام الامبراطورية الإسبانية خرجت من قشتاله إلى العالم من شرنقة صراعها مع الأندلس، وكانت لا تزال دولة أوروبية فقيرة، إذ تمكنت من إقناع زعامة غرناطة بتسليم المملكة التي كانت آنذاك يحكمها أبوعبدالله محمد الثاني 1460-1527م آخر ملوك الأندلس، وهو من بني نصر أحد ملوك الطوائف، وأستسلم لفرديناند وايزابيلا ملوك قشتاله وأراجون (مملكة شرق آيبريه) في 2 يناير 1492م.

سمى الإسبان ملك غرناطة ابو عبد الله محمد الثاني عبديل، أما أهل غرناطة فأطلقوا عليه الزعابي أي المشؤم أو التعيس، وبغنائم غرناطة أزاحت قشتاله عن كاهلها قسما كبيرا مهما من القروض التي حصلت عليها من الأثرياء اليهود لتمويل الحرب ضد غرناطة. وخلال النصف الأول من القرن السادس عشر دبّ النشاط في قشتاله المتحدة مع أرغون، فاتجه رجالها شمالا نحو أوروبا، وجنوبا نحو المغرب وغربا عبر الأطلسي فأقاموا مملكة شاسعة. أمتدت من تكساس إلى الأرجنتين، وتدفقت عليها كميات هائلة من الذهب والفضة التي مولت حروب التوسع في أوروبا، وساهمت في بناء أكبر إمبراطورية برية وبحرية عرفها العالم. لكن البداية كانت متواضعة جدا، وكانت ستظل متواضعة لو لم يرتكب كريستوفر كولومبوس خطأه التاريخي الممتاز عندما أتجه إلى مصادر التوابل في الهند فوجد نفسه صدفة في اميركا.

وإلى مزيد حديث في مقال لاحق عن الأندلسيين والكنيسة في مشهد الأحداث آنذاك.