البخل.. غيرة أم مرض؟
| زهير توفيقي
قد نربط البخل عادةً بالمال، لكن هناك نوع آخر من البخل أشد قسوة وأكثر تأثيرًا في النفوس.. بخل المشاعر والكلمات. أن تبخل بكلمة طيبة، أو بإشادة مستحقة، أو بشكر بسيط لمن أحسن إليك، فهذا نوع من الفقر الإنساني الذي لا تبرره الظروف المادية ولا الأعذار الواهية. كثيرون يترددون في قول “شكرًا” بصدق، أو يمتنعون عن مدح عمل متقن، أو يحجمون عن دعم معنوي يحتاجه أحدهم. البعض يبرر ذلك بالخجل، وآخرون يرونه أمرًا غير ضروري، لكن في كثير من الحالات يكون السبب أعمق.. الغيرة أو الحسد أو حتى الشعور بالضعف أمام الآخر. هذه الظاهرة وللأسف الشديد نراها منتشرة بشكل كبير مع الأقرباء أكثر من الغرباء! ويأتي صاحب اللسان النظيف الطاهر يوم القيامة يحبه الله ويدخله الجنة. وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن “الكلمة الطيبة صدقة”، وقال: “اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة”، وإن المسلم ليتكلم بالكلمة الطيبة فيرضى عنه الله عز وجل إلى أن يلقاه يوم القيامة فيدخله الجنة. ومن أبرز القواعد في علم الإدارة والقيادة الفعالة، الإشادة بالموظف أمام الآخرين، والتي تعزز معنوياته وتزيد دافعيته، وتشجّع زملاءه على بذل المزيد من الجهد. أما توجيه اللوم أو النقد، فمن الأفضل أن يتم على انفراد، لأن ذلك يحفظ كرامة الموظف ويجعله أكثر تقبلاً للملاحظات دون الشعور بالإحراج أو الإهانة. هذه القاعدة المثلى تعتمد على مبادئ التحفيز الإيجابي والذكاء العاطفي في بيئة العمل، حيث يُنظر إلى التقدير العلني كأداة لتعزيز الأداء، بينما يُستخدم النقد البنّاء على انفراد كوسيلة لتصحيح الأخطاء دون التأثير سلبًا على الروح المعنوية.
والسؤال الذي يطرح نفسه، لماذا يبخل البعض بالكلمات الطيبة؟ قد يكون الامتناع عن الثناء نابعًا من عدم تقبل تفوق الآخرين، أو الخوف من تعزيز نجاحهم أكثر. فالبعض يظن أن تقديم الإشادة يعني الإقرار بتفوق الآخرين عليه، وكأن الاعتراف بمحاسن الغير يقلل من شأنه. وقد ينشأ البعض في بيئة عائلية لا تعلّم قيمة التشجيع والدعم اللفظي، فيصبح الجفاف العاطفي عادة. دعونا نقر بأننا نقصر في توجيه الأبناء على هذه السلوكيات التي يجب اتباعها في حياتنا، فإذا لم نعلمهم في نشأتهم فإنه من الصعب أو الاستحالة اتباعها في الكبر. دعونا نتساءل، هل ندرك كيف تؤثر الكلمة الطيبة على الآخرين؟ كيف يمكن لرسالة شكر بسيطة أن تضيء يوم أحدهم؟ وكيف أن تجاهل التعبير عن الامتنان قد يخلق جراحًا لا تُرى؟ أتذكر جيدًا واقعة حصلت لي قبل أكثر من ثلاثين عامًا، عندما قرأت في إحدى الصحف المحلية عن ترقية أحد زملاء الدراسة في الجامعة، والذي لا تربطني به أية علاقة منذ تخرجنا منذ فترة طويلة ولا حتى أعرف جهة عمله! فقد بادرت بشكل عفوي وأرسلت له رسالة تهنئة عبر الفاكس آنذاك، ولا تعلمون كيف كان وقع تلك المبادرة العفوية والبسيطة، وكيف كانت محل تقدير كبير من قبل هذا الشخص الذي لم ينسها منذ ذلك اليوم، بل يذكرني بها عند لقائي به بالصدفة في أية مناسبة، فنصيحتي للجميع أن لا يبخلوا في مثل هذه الأمور البسيطة التي لا تكلف شيئًا، ولكن مفعولها كالسحر، وتذكروا أيضًا أن الدين معاملة. الخلاصة أن تبخل بكلمة لا تكلفك شيئًا هو فقر لا يليق بإنسانٍ سوي، وليس المطلوب هنا أن نبالغ في الإطراء، بل أن نتعلم التعبير عن الامتنان والإشادة بصدق، لنخفف عن بعضنا ثقل الحياة. والله من وراء القصد.
كاتب وإعلامي بحريني