مقاومة التغيير: العدو الخفي للتحول الرقمي

| عبدالله سلمان

 في عصرنا الحالي، نشهد تسارعًا غير مسبوق في وتيرة التطور التكنولوجي، حيث أصبحت أتمتة المهام وتكامل الأنظمة واقعًا لا مفر منه. تواجه المؤسسات، بمختلف أنواعها وأحجامها - حكومية كانت أم خاصة، صغيرة أو كبيرة - تحديًا حقيقيًّا للحفاظ على استدامتها: إما أن تتبنى التحول الرقمي الآن، أو تتخلف عن مواكبة متطلبات هذا العصر، مما يضعها أمام خطر التراجع وربما الاختفاء من السوق. هذه ليست مبالغة، بل حقيقة تؤكدها التجارب العالمية، كما أشرت إليها بوضوح في مقالتي السابقة بعنوان: “الابتكار ليس خيارًا: من يتوقف يتراجع ويختفي”. لكن رغم كل هذه الحقائق، يظل السؤال الأهم: لماذا يتحول دافع التغيير إلى عقبة كبرى في مسيرتنا نحو التطور؟ إنني أدرك تمامًا أن التغيير ليس سهلًا، سواء على المستوى الفردي أو المؤسسي. قد يكون من السهل إقناع أي شخص بأهمية التحول الرقمي والمكاسب الكبيرة التي يمكن أن يحققها، لكن عند الانتقال إلى مرحلة التطبيق، نصطدم بالعائق الأكبر: مقاومة التغيير، التي قد تظهر بأشكال متعددة. في هذا المقال، سأناقش القصة الحقيقية وراء هذه المقاومة، وكيف يمكن للمؤسسات تجاوزها بفعالية لتحقيق تحول رقمي مدروس وذي أثر ملموس وقابل للقياس.

فهم الفارق: ضرورة لا يمكن تجاهلها قبل أن أتعمق في تفاصيل مقاومة التغيير، دعوني أوضح شيئًا مهمًّا: كثيرون يخلطون بين الرقمنة والتحول الرقمي، رغم أن الفارق بينهما كبير. لتبسيط الفكرة، يمكننا التفكير بهذه الطريقة: إذا كانت مؤسستك تعتمد كليًا على المستندات الورقية لحفظ بيانات العملاء أو المعاملات، ثم قررت استبدال هذه الملفات بنظام إلكتروني، فإن هذه العملية تُعرف بـ “الرقمنة” (Digitization). أي أنك تحوّل البيانات من ورقية إلى رقمية، بينما تبقى طريقة العمل نفسها دون تغيير جذري. أما التحول الرقمي (Digital Transformation) فهو عملية تغيير طريقة العمل لتصبح أكثر ذكاءً وسرعة، من خلال الاعتماد على الأنظمة والحلول التقنية بدلاً من الإجراءات اليدوية. على سبيل المثال، بدلاً من تسجيل بيانات العملاء يدويًّا في سجلات ورقية، يمكن للنظام إنشاؤها تلقائيًّا، وحفظها، وتحليلها، وعرض نتائج تفصيلية حول معدلات المبيعات واحتياجات العملاء دون أي جهد يُذكر. وقد يختلف مستوى التحول الرقمي تبعًا لحجم المؤسسة، احتياجاتها، متطلباتها، أو حتى القوانين وضوابط الجودة التي تفرض التغيير. ويمكن أن يتراوح بين تحسينات بسيطة إلى تغييرات شاملة تعيد تشكيل آلية عمل المؤسسة بالكامل. كما أن الأنظمة الذكية والمتكاملة قد تتصل بأنظمة أخرى محلية أو خارجية، مما يعزز الكفاءة، والتنسيق، وجودة العمليات. وهنا يبرز التساؤل الأهم: إذا كانت الرقمنة، وهي أبسط مستويات التغيير، تواجه مقاومة ليست بالهينة، فكيف سيكون الوضع مع التحول الرقمي الشامل الذي لا يقتصر على التكنولوجيا، بل يشمل إعادة تشكيل الثقافة التنظيمية للمؤسسات بأسرها؟

لماذا يقاوم التغيير؟ هذه نقطة في غاية الأهمية، فقد رأيت بنفسي كيف تتعامل المؤسسات مع التغيير. يعتقد البعض أن مقاومة التغيير مجرد “عناد” أو “عدم رغبة في التطور”، لكن الواقع أكثر تعقيدًا. فهناك عوامل نفسية وثقافية، إلى جانب أسباب تنظيمية، تجعل التغيير صعبًا ما لم تكن بداياته مدروسة وحكيمة. من خلال خبرتي في مجال الابتكار والتحول الرقمي، ومن خلال احتكاكي المباشر بمختلف الأطراف - بدءًا من أصحاب القرار والمسؤولين وصولًا إلى العاملين والأطراف الأخرى - أرى أن مقاومة التغيير يمكن تصنيفها إلى أربع فئات رئيسة: 1. الخائفون من المجهول: هم الأشخاص الذين يشعرون بأن التحول الرقمي يهدّد استقرار بيئة العمل التي اعتادوا عليها، مما يثير لديهم تساؤلات مقلقة مثل: “ماذا لو لم أستطع التكيف؟” أو “ماذا لو فقدت وظيفتي؟”. (اقرأ المقال كاملًا بالموقع الإلكتروني) 2. المتمسكون بمنطقة الراحة: البعض قد لا يرى مشكلة في التكنولوجيا، لكنه يفضل العمل بالطريقة التي يعرفها جيدًا. تغيير النظام يعني بذل جهد إضافي، وتعلم مهارات جديدة، وهذا ليس خيارًا مرغوبًا للكثير من الناس. 3. الخائفون من الشفافية: بعض الأنظمة التقليدية كانت تمنح هامشًا من “التجاوز”، سواء في إنجاز العمل بطرق غير رسمية أو حتى في التحايل على بعض الأخطاء. في حين أن التحول الرقمي يجعل كل شيء شفافًا ومقننًا، وهذا قد لا يكون مريحًا للجميع. 4.    ضحايا التجارب الفاشلة: بعض المؤسسات جربت التحول الرقمي بطريقة خاطئة – عبر أنظمة معقدة، أو قرارات متسرعة، أو أدوات غير مناسبة. النتيجة؟ مقاومة داخلية تجعل أي محاولة جديدة مرفوضة من البداية، حتى لو كانت أفضل.

مجرد نماذج لمقاومة التغيير خلال مسيرتي المهنية، تكرّرت علي نماذج متعددة لمقاومة التغيير، بعضها كان متوقعًا، والبعض الآخر كان مفاجئًا يثير التساؤل.  في إحدى الشركات، تم إدخال نظام إلكتروني جديد للحضور والانصراف يعتمد على البصمة بدلًا من التوقيع اليدوي. المفترض أن الأمر بسيط، أليس كذلك؟ لكن المفاجأة أن بعض الموظفين رفضوا استخدامه بشدة، ليس لأنهم لا يحبون التقنية، بل لأن النظام الجديد كشف تأخراتهم التي كانت تُغطى بسهولة بالتواقيع التقليدية. وفي مؤسسة أخرى، تم إدخال نظام ذكي لإدارة المعاملات، بحيث يتم تسجيل كل خطوة إلكترونيًّا. البعض كان مستاءً من النظام الجديد لأنه ألغى “المرونة” التي كانت تتيح تعديل بعض العمليات يدويًّا، مما جعل بعض الأخطاء أو التجاوزات أكثر وضوحًا. حتى في بعض القطاعات عالية المستوى، رأيت مسؤولين يعارضون الأنظمة الجديدة لأنهم شعروا بأن القرارات أصبحت أكثر مركزية ونظامية، وأن سلطتهم التقليدية في اتخاذ بعض الاستثناءات لم تعد كما كانت.

فهم المشكلة.. نصف الحل وراء كل مشكلة توجد أسباب عميقة، وكلما تعمقنا في فهم هذه الأسباب، اقتربنا أكثر من الوصول إلى الحلول الواقعية. وهنا نصل إلى الجزء الأهم: كيف يمكن لأي مؤسسة أن تتعامل مع مقاومة التغيير بطريقة عملية؟ الحل يكمن في إشراك الموظفين منذ البداية، وشرح سبب التغيير وكيف سيفيدهم، بدلًا من فرضه كأمر واقع. كما أن التغيير التدريجي يمنح الموظفين الوقت الكافي للتكيف، مما يجعله أكثر قبولًا. من المهم أيضًا إثبات الفائدة من خلال النتائج. عندما يدرك الموظف أو المسؤول أن المهمة التي كانت تستغرق يومًا كاملًا يمكن إنجازها في نصف ساعة، سيبدأ بتغيير موقفه تجاه التحول الرقمي.

معركة البقاء: التحول الرقمي لا يحتمل التأجيل القرار يرجع إليك في كيفية التعامل مع مقاومة التغيير. فأنت الآن أمام معركة حقيقية، والوقت ليس في صالحك، حيث لم يعد التحول الرقمي مجرد خيار أو توجه مستقبلي، بل أصبح ركيزة أساسية لبقاء المؤسسات في أسواق تتسم بالتغير السريع والمنافسة الشرسة. صحيح أن مقاومة التغيير أمر طبيعي، ولكن يجب أن ندرك أنها قد تصبح العقبة الأكبر أمام أي نوع من التغيير أو التطوير. المؤسسات التي تدرك أهمية التحول الرقمي وتسعى إلى تطبيقه بذكاء، مع مراعاة العنصر البشري، هي التي ستتمكن من الحفاظ على مكانتها ووجودها في السوق. قد يكون التحدي الحقيقي لا يكمن في التكنولوجيا ذاتها، بل في كيفية تبنيها وتوظيفها لخدمة أهداف المؤسسة وتقديم تجربة سلسة وفعالة للمستخدمين والموظفين على حد سواء. النجاح في التحول الرقمي لا يتحقق بفرض التغيير بالقوة، بل من خلال تبني نهج يعتمد على إشراك الجميع، والتدرج في التطبيق، وإثبات الفائدة العملية على أرض الواقع. في النهاية، السؤال الذي يجب أن أطرحه على كل قائد أو صاحب مؤسسة: أين تقف مؤسستك الآن؟ هل هي على استعداد لمواجهة تحديات التحول الرقمي، أم ستظل عالقة في دائرة مقاومة التغيير؟ القرار في يدك، ولكن تذكر: الوقت لا ينتظر.