خربشة ومغزى.. "البابوية والاضطهاد الديني"

| احمد عبدالله الحسين

البابوية والاضطهاد الديني عنوان تابع لمقال سابق، ولابد من تمهيد يفسح خلفيات فهم صراعات سجَّل التاريخ أثرها وطالت عدة قرون عرفتها البشرية. فعل بشري أتخذ الدين مظلة وفيه مصالح دنيوية، حتى وإن ضم متناقضات، مثلا ساسة فرنسا تبنّوا إعلان حقوق الإنسان في باريس عام 1789م، لكنهم قادوا حرب استعمارية في الجزائر ذهب ضحيتها كثير من البشر. ومثل أخر ما تعرضت له الكنيسة من ظُلْم في مطلع الألفية الأولى عبرت حكايتها إلى القلوب، عادت هي ومارست جَوْر أكثر رهبة بكثير ضد الأندلسيين واليهود وأصحاب الإصلاح الديني المسيحي.

مبادئ الكنيسة ذخرت بمكنون شدّ عشرات الملايين بمبادئ الرحمة والمحبة والتسامح والمغفرة لكن وقع جزء من أتباعها في تلويث تاريخها في الأندلس، بأقصاء وتعذيب مؤلم عرفه العالم ويُعد الأطول زمنا. مشهد فيه تناقض بشري يدفع أسئلة؛ منها لماذا روما الغربيّة وهي حاضنة دين مشرقي، يتوالى جلّ الباباوات آنذاك من الإيطاليين؟ ولماذا رافق روح ارتفاع البابوية حرارة الروح الصليبية؟ ولماذا وافق هبوطها برود الحروب الصليبية؟ هذه أسئلة تستلهم أجوبة في فهم جانب من حقائق تاريخية، وتفيد أن شأن الإقصاء والتعذيب ما سلم منه أيضا بعض أتباع ديانات وساسة إمبراطوريات. 

القرون الوسطى أبرزت قوة البابوية أنها مرتبطة بقوة الممالك الأوربية، وتستمد كذلك شرعيتها من القديسين، وأشهرهم بطرس الذي هجر القدس مبشرا متنقلا في الأرض القرن الأول ميلادي، ثم حل بإنطاكية كأول أسقف لكنيستها، بعدها أرتحل إلى روما ليصبح أيضا أول أسقف فيها. ومزيد معرفة عن بطرس، أنه لم تظهر أدلة تاريخية قاطعة حول ظروف موت هذا القديس، إلا أن الشائع في المرويات المسيحية أنه صُلب مكبوبا على "تل فانيكانوس Mons Vaticanus" خلال اضطهاد نيرون المسيحيين بين سنة 64-68م، بعد اتهامهم بحرق عاصمته، وأن رفاته محفوظة تحت كنيسة القديس بطرس في مدينة الفاتيكان التي هي قصر البابا. ولهذا تستمد الكنيسة الرومانية شرعيتها من شرعية إقامة القديس بطرس في كنيسة روما مكلفا من السيد المسيح كما يُروى عندهم. ومن هنا أصبح خلف بطرس القديس يستمد هذه الشرعية وممثلا لله في الأرض ومعصوماً عن الخطأ في تقرير شؤون الإيمان، ولا سلطة لأحد علية ولا يمكن تنحيته ليستقيم في المنصب حتى الممات ما لم يتنازل هو لسبب.

وتبدو هذه الشرعية صلبة لا تقبل الطعن، إلا أننا نجد خلال المواجهة بين الكاثوليك والبروتستانت؛ أن اللاهوتيين البروتستانت اقترحوا تفسيرا أخر لقول السيد المسيح على أساس معنى بناء الكنيسة على إيمان بطرس به، وليس وجودها في مكان محدد. وعرفت المسيحية مثل كل الأديان انقسامات كثيرة رافقتها حركات اضطهاد واسعة كمُنت وراءها مجموعة من العوامل والأسباب. ولم يكن الخلاف الذي نشب بين البابوية والبروتستانتية في بداية القرن السادس عشر إلا واحدا من هذه الانقسامات التي واجهتها البابوية والملوك الذين تبنوا موقفها، وأدت إلى قيام حرب طاحنة امتدت إلى البحار، وانتهت إلى انقسام تجذر بين أتباع الديانة الواحدة كان أهم من الانقسام بين الكنيسة الشرقية والغربية.

وهكذا وجد البابوات في طبيعة منصبهم والصلاحيات المستمدة منه تسويغاً لمواجهة الحركات التي خرجت عن تعاليم الكاثوليكية، والتصدي للملوك والأباطرة الذين حالوا التعدي على صلاحياتهم عن طريق حرمانهم من الكنيسة، أو توجيه الرعية إلى حجب الطاعة عن الراعي. إلا أن سلطات البابا لم تكن دائماً دينية فمع الزمن امتدت هذه في عهد الأقوى منهم إلى هيمنة دنيوية. فكرس البابا غريغرويوس الأول 590-640م بدايتها. عندما أصبح حاكم مدينة روما نفسها، وبلغت هذه السلطة ذروتها مع الزمن حينما أصدر البابا بونيفانيوس الثامن 1294-1303م أرادة بابوية أسماها "Unam sanctum" اعتبرها المؤرخون أقوى تاكيد لسلطة البابوية على الملوك، وسائر أبناء المسيحية في كل مكان، وزعم هذا البابا أن خلاص الناس يكمن في إخضاع أنفسهم إلى البابا.

وبهذا أصبح لبعض البابوات أساطيل وقوات يستطيع تسييرها إلى أي مكان في أوربا، وتولت هذه القوات في بعض الحالات ملاحقة أصحاب الآراء المغايرة لآراء الكنيسة واضطهادهم، وبدأ هذا يتعاظم يُذكر بتعسف عرفه المسيحيون الأوائل على يد الرومان، ولكن الكنيسة أعادة مشهد تاريخ ظُلْم أخذ شكل مؤسسي في منظمة عُرفت باسم محاكم التحقيق. فما طبيعتها؟ يتم الحديث عنها في مقال أخر.