+A
A-

بين الأروقة والأوراق

بين أروقة المستشفيات وأوراق الكتب والبحوث، يقضي الطبيب قدرًا ليس باليسير من حياته، وبطبيعة الحال لم أخالف هذه القاعدة. ولما كانت هذه الحياة ملأى بالقصص والأشخاص، كانت لكل طبيب حصته من المواقف والذكريات من المستشفيات. أستذكر هنا بعض التجارب التي يجمعها الإحسان، التواضع، وفهم أصيل للمهنة.

بينما‭ ‬كنا‭ ‬نعاين‭ ‬إحدى‭ ‬الحالات،‭ ‬ذات‭ ‬مناوبة،‭ ‬في‭ ‬عطلة‭ ‬نهاية‭ ‬الأسبوع،‭ ‬ولمّا‭ ‬كان‭ ‬للحالة‭ ‬بُعد‭ ‬اجتماعي،‭ ‬تفاجأت‭ ‬بأحد‭ ‬الاستشاريين‭ ‬من‭ ‬تخصص‭ ‬آخر،‭ ‬كان‭ ‬يمر‭ ‬على‭ ‬مريض‭ ‬له‭ ‬ومر‭ ‬بالصدفة‭ ‬بنا‭. ‬فإذا‭ ‬الليل‭ ‬حلّ‭ ‬ومازال‭ ‬ذاك‭ ‬الاستشاري‭ ‬معنا‭ ‬يعاوننا‭ ‬في‭ ‬حل‭ ‬أمور‭ ‬لوجستية‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬الرعاية‭ ‬الطبية‭. ‬في‭ ‬موقف‭ ‬آخر،‭ ‬حضر‭ ‬أحد‭ ‬الأطباء‭ ‬المقيمين‭ ‬الاجتماع‭ ‬الصباحي‭ ‬بجبيرة‭ ‬في‭ ‬يده،‭ ‬حيث‭ ‬أصيب‭ ‬بكسر‭ ‬أثناء‭ ‬مناوبته‭ ‬في‭ ‬الليلة‭ ‬السابقة،‭ ‬بعد‭ ‬محاولته‭ ‬منع‭ ‬مريض‭ ‬منوم‭ ‬في‭ ‬الطب‭ ‬النفسي،‭ ‬لا‭ ‬يدرك‭ ‬ما‭ ‬يفعل،‭ ‬من‭ ‬الهرب‭ ‬من‭ ‬المستشفى‭.‬

أحد‭ ‬الأساتذة‭ ‬توفيت‭ ‬والدته‭ ‬فرفض‭ ‬حضور‭ ‬العزاء‭ ‬قبل‭ ‬إتمام‭ ‬العملية‭ ‬الجراحية‭ ‬لمريضه‭. ‬أستاذ‭ ‬فاضل،‭ ‬كان‭ ‬يسعى‭ ‬لحاجة‭ ‬المرضى‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬قسم‭ ‬من‭ ‬المستشفى،‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬أمرٌ‭ ‬بإمكان‭ ‬الأطباء‭ ‬في‭ ‬فريقه‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬المريض‭ ‬نفسه‭ ‬فعله،‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬يحرص‭ ‬على‭ ‬إتمام‭ ‬الحاجات‭ ‬بنفسه‭ ‬دون‭ ‬تسويف‭. ‬أحدهم‭ ‬كان‭ ‬يتلمس‭ ‬حوائج‭ ‬المصلين‭ ‬في‭ ‬المسجد؛‭ ‬فيسعى‭ ‬ليقضيها‭ ‬ممن‭ ‬يحتاج‭ ‬استشارة‭ ‬أو‭ ‬موعدًا‭ ‬ونحو‭ ‬ذلك،‭ ‬فمن‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬أخيه‭ ‬كان‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬حاجته‭.‬

عرفت‭ ‬أطباء‭ ‬ينفقون‭ ‬من‭ ‬مالهم‭ ‬الخاص‭ ‬لتوفير‭ ‬علاجات‭ ‬للمرضى‭ ‬أو‭ ‬يجمعون‭ ‬التبرعات‭ ‬للعلاجات‭ ‬المكلفة،‭ ‬ويرفضون‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬الطب‭ ‬الخاص‭ ‬حياءً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬ينفق‭ ‬مريض‭ ‬ماله‭ ‬مقابل‭ ‬استشارة‭ ‬أو‭ ‬علاج‭. ‬أستاذ‭ ‬فاضل،‭ ‬كان‭ ‬ذا‭ ‬أسلوب‭ ‬متفرد‭ ‬في‭ ‬شرح‭ ‬الموضوعات‭ ‬الصعبة‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬له‭ ‬مثيلًا‭. ‬كنا‭ ‬إذا‭ ‬رأيناه‭ ‬في‭ ‬الممر‭ ‬بعد‭ ‬العصر‭ ‬وبعد‭ ‬انتهاء‭ ‬ساعات‭ ‬الدوام‭ ‬الرسمي،‭ ‬لا‭ ‬يتوانَ‭ ‬عن‭ ‬أداء‭ ‬زكاة‭ ‬العلم،‭ ‬وأمسك‭ ‬بالورقة‭ ‬والقلم‭ ‬وبدأ‭ ‬يسرد‭.‬

أحد‭ ‬الأساتذة‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬اسمي،‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬يمر‭ ‬على‭ ‬مرضاه‭ ‬توقف‭ ‬ليثني‭ ‬عليّ‭. ‬أستاذان‭ ‬آخران‭ ‬كانا‭ ‬يبحثان‭ ‬عني‭ ‬في‭ ‬غيابي،‭ ‬أحدهما‭ ‬ليمتدح‭ ‬خطي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يشبه‭ ‬خط‭ ‬الأطباء‭ ‬الذي‭ ‬تعْهدون،‭ ‬والآخر‭ ‬ليشكرني‭ ‬على‭ ‬شمولية‭ ‬كتابتي‭ ‬للتاريخ‭ ‬المرضي‭ ‬لأحد‭ ‬مرضاه‭. ‬أكاد‭ ‬أجزم‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬ذكرت‭ ‬لربما‭ ‬غاب‭ ‬عن‭ ‬ذاكرتهم،‭ ‬لكنه‭ ‬طبع‭ ‬في‭ ‬ذاكرتي،‭ ‬دروس‭ ‬قيمة‭ ‬لن‭ ‬أنساها‭ ‬ما‭ ‬حييت،‭ ‬ولذا‭ ‬تناقلتها‭.‬

في‭ ‬زمن‭ ‬يُقلل‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬الجهد‭ ‬الذي‭ ‬يتكبده‭ ‬الطبيب،‭ ‬ويقتنصون‭ ‬الفرص‭ ‬لانتقاده،‭ ‬وتعكس‭ ‬فئة‭ ‬صورة‭ ‬سيئة‭ ‬يتخللها‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬كبر،‭ ‬نقلت‭ ‬صورًا‭ ‬مشرقة‭.‬‭ ‬فهذه‭ ‬المهنة‭ ‬أسمى‭ ‬من‭ ‬مجرد‭ ‬رداء‭ ‬أبيض‭ ‬أو‭ ‬أموال‭ ‬نجنيها‭ ‬من‭ ‬علاج‭ ‬المرضى،‭ ‬وقد‭ ‬أصبحت‭ ‬وبكل‭ ‬أسف‭ ‬تقاس‭ ‬بالماديات‭. ‬هذا‭ ‬إهداء‭ ‬لزملاء‭ ‬المستقبل‭ ‬من‭ ‬الطلبة‭ ‬وأطباء‭ ‬الامتياز،‭ ‬ليذكركم‭ ‬أحدهم‭ ‬لربما‭ ‬في‭ ‬مقال‭ ‬كهذا‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مقام‭ ‬أفضل‭. ‬إحسانكم‭ ‬للمرضى‭ ‬ولأنفسكم‭ ‬إحسان‭ ‬لهذه‭ ‬المهنة‭.‬

حُقّ‭ ‬عليّ‭ ‬قبل‭ ‬الختام‭ ‬ذكر‭ ‬من‭ ‬يسطرون‭ ‬البطولات‭ ‬والتضحيات‭ ‬رغم‭ ‬الخطر،‭ ‬أطباء‭ ‬بل‭ ‬أبطال‭ ‬غزة‭. ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬حاضرة‭ ‬في‭ ‬بطولاتهم،‭ ‬وإنني‭ ‬على‭ ‬يقين‭ ‬أنها‭ ‬وجدت‭ ‬طريقها‭ ‬إليكم‭ ‬ولكنه‭ ‬أقل‭ ‬القليل،‭ ‬أن‭ ‬أذكرهم‭ ‬هنا،‭ ‬فهم‭ ‬يستحقون‭ ‬الخلود‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭.‬