+A
A-

قصة إلى متى

تلك‭ ‬الفتاة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تتجاوز‭ ‬السابعة‭ ‬من‭ ‬عمرها،‭ ‬والتي‭ ‬تركت‭ ‬بلدها‭ ‬وأصدقاءها‭ ‬وقلبها‭ ‬يعتصر‭ ‬من‭ ‬الحزن،‭ ‬لقد‭ ‬اغتربت‭ ‬بسبب‭ ‬الحرب‭ ‬وما‭ ‬خلفته‭ ‬من‭ ‬خراب‭ ‬ودمار،‭ ‬فقد‭ ‬عاشت‭ ‬سنة‭ ‬الحرب‭ ‬الأولى‭ ‬وهي‭ ‬حزينة‭ ‬تسمع‭ ‬أصوات‭ ‬الصواريخ‭ ‬والخوف‭ ‬يتسلل‭ ‬إلى‭ ‬جسمها‭ ‬ويملأ‭ ‬قلبها‭.‬

 

لقد‭ ‬عاشت‭ ‬سنة‭ ‬مريرة،‭ ‬سنة‭ ‬لا‭ ‬تنسى،‭ ‬لقد‭ ‬تركت‭ ‬بلدها‭ ‬وذهبت‭ ‬إلى‭ ‬بلد‭ ‬آخر‭ ‬تمنت‭ ‬أن‭ ‬تعيش‭ ‬فيه‭ ‬أياما‭ ‬جميلة؛‭ ‬تُنسيها‭ ‬أيامها‭ ‬الحزينة،‭ ‬أيام‭ ‬الحرب‭ ‬المشؤومة‭.‬

 

 

وتذهب‭ ‬لمدرسة‭ ‬وتحقق‭ ‬أحلامها‭ ‬وتحظى‭ ‬بصداقات‭ ‬جديدة،‭ ‬ولكن‭ ‬حصل‭ ‬خلاف‭ ‬ذلك‭ ‬للأسف‭.‬

 

ففي‭ ‬أول‭ ‬يوم‭ ‬دراسي‭ ‬لها‭ ‬ذهبت‭ ‬وقلبها‭ ‬يخفق‭ ‬فرحًا،‭ ‬وعيناها‭ ‬تشع‭ ‬سعادةً‭ ‬وشوقًا‭ ‬لرؤية‭ ‬مدرستها‭ ‬الجديدة،‭ ‬وفي‭ ‬طريقها‭ ‬كانت‭ ‬الشمس‭ ‬مشرقة‭ ‬مضيئة‭ ‬كأنها‭ ‬تبتسم‭ ‬لها،‭ ‬وزادتها‭ ‬إشراقة‭ ‬الشمس‭ ‬تفاؤلًا‭ ‬وأملًا‭ ‬بأيام‭ ‬مليئة‭ ‬بالفرح‭ ‬والسرور‭ ‬تغنيها‭ ‬عن‭ ‬أيام‭ ‬الحزن‭ ‬منذ‭ ‬تركت‭ ‬وطنها،‭ ‬وعند‭ ‬وصولها‭ ‬وجدت‭ ‬نفسها‭ ‬أمام‭ ‬صرح‭ ‬ذي‭ ‬هيبة‭ ‬يناديها‭: ‬هيا‭ ‬أيتها‭ ‬الفتاة‭ ‬هلمي‭ ‬إلي‭ ‬لتحظي‭ ‬بيوم‭ ‬سعيد‭ ‬بصحبتي‭.‬

 

فهرعت‭ ‬مسرعةً‭ ‬لدخول‭ ‬المدرسة‭ ‬وهي‭ ‬تطير‭ ‬فرحًا‭ ‬وعند‭ ‬دخولها‭ ‬للصف‭ ‬نادت‭ ‬معلمتها‭ ‬قائلة‭: ‬أستاذة،‭ ‬كما‭ ‬اعتادت‭ ‬في‭ ‬وطنها،‭ ‬فقامت‭ ‬إحدى‭ ‬الطالبات‭ ‬بالصف‭ ‬بالضحك‭ ‬والاستهزاء‭ ‬عليها،‭ ‬وتقول‭ ‬بسخرية‭: ‬لا‭ ‬ينادون‭ ‬المعلمة‭ ‬هنا‭ ‬بأستاذة‭ ‬بل‭ ‬أبلة،‭ ‬فاندهشت‭: ‬لماذا‭ ‬تصرفت‭ ‬هذه‭ ‬الفتاة‭ ‬معي‭ ‬بهذه‭ ‬الطريقة؟‭!‬

 

وفي‭ ‬الاستراحة‭ ‬ذات‭ ‬الفتاة‭ ‬كانت‭ ‬تحاول‭ ‬إقناع‭ ‬الطالبات‭ ‬بعدم‭ ‬الحديث‭ ‬معها،‭ ‬فشعرت‭ ‬بالوحدة‭ ‬والحزن‭ ‬الشديدين‭ ‬وتساءلت‭: ‬لماذا‭ ‬تتصرف‭ ‬هذه‭ ‬الفتاة‭ ‬معي‭ ‬بهذه‭ ‬الطريقة؟‭ ‬فهو‭ ‬أول‭ ‬يوم‭ ‬ألتقي‭ ‬بها،‭ ‬فلم‭ ‬يبدر‭ ‬مني‭ ‬شيء‭ ‬يجعلها‭ ‬تعاملني‭ ‬بهذه‭ ‬الطريقة؟‭! ‬

 

وكل‭ ‬يوم‭ ‬كان‭ ‬يمر‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬مع‭ ‬تصرفات‭ ‬الفتيات‭ ‬معها‭ ‬كانت‭ ‬تكتم‭ ‬غيوم‭ ‬الحزن‭ ‬حتى‭ ‬بدأ‭ ‬الحزن‭ ‬يشقق‭ ‬قلبها،‭ ‬ولا‭ ‬تريد‭ ‬الذهاب‭ ‬لمدرستها‭.‬

وفي‭ ‬يومٍ‭ ‬عادت‭ ‬لمنزلها‭ ‬وجفنها‭ ‬راعش‭ ‬مبلول‭ ‬وقلبها‭ ‬يئس‭ ‬مخذول‭ ‬فأخذت‭ ‬مكانًا‭ ‬في‭ ‬زاوية‭ ‬غرفتها‭ ‬المظلمة،‭ ‬وبدأت‭ ‬تصارع‭ ‬حزنها،‭ ‬وعندها‭ ‬دخلت‭ ‬أمها‭ ‬وأضاءت‭ ‬الأنوار،‭ ‬ورأتها‭ ‬تصارع‭ ‬غيوم‭ ‬حزنها،‭ ‬ولكنها‭ ‬لم‭ ‬ترد‭ ‬أن‭ ‬تخبر‭ ‬والدتها؛‭ ‬لكي‭ ‬لا‭ ‬تشعر‭ ‬بالأسى،‭ ‬ولكن‭ ‬بعد‭ ‬حديث‭ ‬مطول‭ ‬اقتنعت‭ ‬الفتاة،‭ ‬وبدأت‭ ‬تخرج‭ ‬غيومها‭ ‬الداكنة‭ ‬شيئًا‭ ‬فشيئًا،‭ ‬وبدأت‭ ‬الغيوم‭ ‬بالاندثار‭ ‬وكأن‭ ‬الشمس‭ ‬تشرق‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬وشعرت‭ ‬براحة‭ ‬داخلية‭ ‬بعد‭ ‬انتهاء‭ ‬حوارهما،‭ ‬فتفطر‭ ‬قلب‭ ‬الأم‭ ‬من‭ ‬كلام‭ ‬ابنتها‭.‬

 

وذهبت‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬للمدرسة‭ ‬للحديث‭ ‬مع‭ ‬المعلمة،‭ ‬وفي‭ ‬خضم‭ ‬حديثهما‭ ‬انهمرت‭ ‬دموع‭ ‬الأم‭ ‬على‭ ‬وجنتيها،‭ ‬وتساءلت‭ ‬المعلمة‭: ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬تخبرها‭ ‬الفتاة‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬هذا؟‭ ‬وفي‭ ‬بداية‭ ‬الحصة‭ ‬بدأت‭ ‬المعلمة‭ ‬بتوبيخ‭ ‬الفتيات‭ ‬ونهرهن‭ ‬عن‭ ‬فعل‭ ‬هذا‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬وأن‭ ‬هذا‭ ‬التصرف‭ ‬يعتبر‭ ‬تنمرا‭ ‬وبالطبع‭ ‬ممنوع‭.‬

 

ولكن‭ ‬حقدهن‭ ‬ازداد‭ ‬عليها،‭ ‬وعدن‭ ‬إلى‭ ‬عادتهن‭ ‬القديمة‭. ‬وكانت‭ ‬الفتاة‭ ‬تخبر‭ ‬معلمتها‭ ‬عن‭ ‬أفعال‭ ‬الفتيات‭ ‬اليومية‭ ‬لأنها‭ ‬شعرت‭ ‬بأمان،‭ ‬ولكن‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬صرخت‭ ‬في‭ ‬وجهها،‭ ‬وقالت‭: ‬هذا‭ ‬يكفي،‭ ‬ألا‭ ‬تستطيعين‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬نفسك؟‭ ‬فحزنت‭ ‬الفتاة‭ ‬وأخبرت‭ ‬أمها،‭ ‬فردت‭: ‬ابنتي‭ ‬عليك‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬نفسك‭ ‬وصدهن،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬تقابلي‭ ‬السيئة‭ ‬بالسيئة‭ ‬فسيشعرن‭ ‬بالخجل‭ ‬من‭ ‬أنفسهن،‭ ‬ويتركن‭ ‬هذه‭ ‬العادة‭ ‬السيئة‭.‬

 

وبالفعل‭ ‬بدأت‭ ‬الفتاة‭ ‬بالدفاع‭ ‬عن‭ ‬نفسها،‭ ‬وتطبيق‭ ‬نصيحة‭ ‬أمها‭ ‬ومعلمتها،‭ ‬وكأنها‭ ‬اجتازت‭ ‬مرحلة‭ ‬من‭ ‬لعبة‭ ‬شاقة‭ ‬تصل‭ ‬لمرحلة‭ ‬النهاية‭ ‬لتفوز‭ ‬بها،‭ ‬وهي‭ ‬الآن‭ ‬مستعدة‭ ‬لكل‭ ‬الصعاب‭ ‬التي‭ ‬ستواجهها‭ ‬في‭ ‬المراحل‭ ‬القادمة‭ ‬بقوة‭ ‬شخصيتها‭ ‬وطموحها‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬جاءت‭ ‬به‭ ‬مسرعة‭ ‬تحمله‭ ‬على‭ ‬كتفيها‭ ‬حتى‭ ‬تفرح‭ ‬أمها‭ ‬وأباها‭.‬

 

أتتساءلون‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الفتاة؟

إنها‭ ‬أنا،‭ ‬أنا‭ ‬التي‭ ‬أكتب‭ ‬هذه‭ ‬القصة،‭ ‬فقد‭ ‬عانيت‭ ‬الكثير‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬هذا،‭ ‬واجتزت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المراحل‭ ‬بنجاح،‭ ‬وفزت‭ ‬بهذه‭ ‬اللعبة‭.‬

 

وكل‭ ‬الفضل‭ ‬يعود‭ ‬لأمي‭ ‬التي‭ ‬وجهتني‭ ‬وكانت‭ ‬لي‭ ‬الصديقة‭ ‬الأولى‭ ‬دائما،‭ ‬ودفعتني‭ ‬للأمام‭.‬

 

الآن‭ ‬والحمدلله‭ ‬أصبحت‭ ‬صديقة‭ ‬الجميع‭ ‬في‭ ‬المدرسة،‭ ‬والكل‭ ‬يعرفني‭ ‬بأخلاقي‭ ‬وفطنتي‭ ‬وطيبتي،‭ ‬ولكن‭ ‬أتساءل‭ ‬دائما‭ ‬في‭ ‬كنانة‭ ‬نفسي‭ ‬إلى‭ ‬متى؟‭ ‬إلى‭ ‬متى‭ ‬سيبقى‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬داخل‭ ‬قوقعة‭ ‬التنمر؟‭ ‬ومتى‭ ‬سيتحرر‭ ‬منها؟‭ ‬إلى‭ ‬متى؟‭ ‬