العدد 3778
الأحد 17 فبراير 2019
banner
نوري‭ ‬السعيد‭ ‬وخطيئة‭ ‬حلف‭ ‬بغداد
الأحد 17 فبراير 2019

إن تقدير مكانة الرجال والاعتراف بفضلهم وعطائهم هو عنوان ثقافة الشعوب، وعندما نقول الرجال لا نقصد هنا الذكور فقط، بل يشمل ذلك الإناث أيضًا، وإن الأمم الراقية والأنظمة الواعية تحتفظ بذكرى رجالها وتحافظ عليها، وتفخر بعطائهم وإنجازاتهم، وتعتبرهم رموزًا لتراثها وجزءًا من تاريخها.

أما الأنظمة التسلطية الضعيفة فإنها تخشى الكبار والعمالقة وتلجأ إلى طمس ودفن ذكراهم، وإطفاء إشعاعهم، وتعريض سمعتهم ومكانتهم للتشويه والتجريح، وفرض طوق من التعتيم والعزلة عليهم لغرض القضاء على أوجه المقارنة بهم، حيث إن إعلاء شأن هؤلاء الرجال وإعطائهم حقهم من المكانة والتقدير سيعري قادة تلك الأنظمة ويقزمهم ويحرمهم من تلميع ذاتهم وادعاء القدر العالي والمكانة الرفيعة.

ومهما بلغ مستوى نضج الشعوب، ومهما كانت متانة وصلابة حصانتها الفكرية فإن هذا النضج سيصاب بالتراخي وهذه الحصانة الفكرية ستتعرض للشلل والانهيار تحت وطأة هجمات التشويه والتعتيم المكثفة وحملات التشهير والتضليل المركزة التي تديرها أجهزة الأنظمة الفاسقة ضد هؤلاء الرجال فيكون مصيرهم الاندثار والنسيان، وذلك على الرغم من قول الله سبحانه وتعالى في سورة الحجرات “يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين”.

في التاريخ الحديث لوطننا العربي تعرض الكثير من الرجال الكبار إلى محاولات التهميش والتعتيم على أيدي المتسلطين والمتسلقين للسلطة، ولن نتمكن من سردهم في هذه الوقفة القصيرة وهذه المساحة الضيقة، لكننا سنكتفي بالتطرق باختصار شديد وبشكل عابر إلى واحد منهم فقط، وإن لم يكن أكبرهم قدرًا وجاهًا أو أعلاهم قامة ومكانة أو أبعدهم عن الأخطاء والخطايا، وهو شخص عراقي يدعى نوري السعيد، أحد ضحايا التضليل والتهميش والتعتيم الإعلامي، ولذلك لا نبالغ إذا قلنا إن الكثير من شباب الجيل الجديد لا يعرفون هذا الشخص ولم يسمعوا عنه.

ولد نوري السعيد في بغداد بالعام 1888م، وتخرج من الأكاديمية العسكرية التركية في إسطنبول عندما كانت العراق ولاية من ولايات الدولة العثمانية. وكغيره من شباب العرب الواعي في ذلك الوقت فقد توصل نوري السعيد إلى أن الاحتلال التركي الذي دام أربعمئة سنة قد نهب خيرات البلدان العربية، وأن العرب ظلوا في تخلف ورجعية بسبب الخلافة العثمانية، وأنهم سيبقون أمة مستضعفة ما دام الاحتلال التركي جاثما على أوطانهم.

انخرط نوري السعيد في خدمة الجيش العثماني بعد تخرجه من الأكاديمية العسكرية، واعتنق “الفكرة العربية” أيام ظهورها في العاصمة العثمانية، وانتمى إلى الجمعيات السرية المنادية بحرية العرب واستقلالهم عن الدولة العثمانية، ثم شارك في الثورة العربية الكبرى مع الشريف حسين بن علي، التي اعتبرت في ذلك الوقت من بين أبرز تجليات القومية العربية.

وبعد انهيار الدولة العثمانية كان العراق من بين أطلالها المتصدعة، فشارك نوري السعيد في المقدمة في تأسيس المملكة العراقية والجيش العراقي، وشغل منصب رئيس وزرائها 14 مرة من العام 1930 إلى العام 1958، وكان على رأس الحكم فيها لحوالي 40 عامًا، عُرِفَ خلالها بالإخلاص والأمانة والنزاهة والزهد، ولم يمد يده على المال العام أو حقوق الدولة، ولم يكن يملك أطيانًا أو قصور، وقد وضعته الأقدار في مواقف ومواقع مفصلية ومصيرية في حياة الشعب العراقي، فأصبح يعتبر نفسه مسؤولًا عن العراق نظامًا وشعبًا.

كان نوري السعيد عسكري وسياسي بارع، وكان يعد من أقطاب وأساطين السياسة العراقية والعربية، وأصبح الدبلوماسي الأول والأكثر شهرة في العراق والعالم العربي، وقد ساهم في تأسيس عصبة الأمم وهيئة الأمم المتحدة، كما كان له دور بارز في تأسيس جامعة الدول العربية ودخل في صراع مع مصطفى النحاس رئيس وزراء مصر في محاولته لترؤسها وتأسيس مقرها في بغداد.

نوري السعيد كان دبلوماسيًا مناورًا من الطراز الأول، ومؤمنًا بمبدأ “خذ وطالب” وصاحب رؤية واقعية واضحة كانت تتقاطع في الكثير من الأحيان مع سياسات الإنجليز ومخططاتهم، فكان يميل إلى مهادنتهم والاصطفاف معهم رغم حسه الوطني الجارف، إذ كان يعتقد بأن بريطانيًا لا تزال تؤلف قوة عالمية مؤثرة وأنه لابد للعراق أن يعتمد على دولة كبرى لردع أعدائه. كان نوري السعيد يبحث عن صيغة تحفظ للعراق الوليد سيادته وسلامة أراضيه، وتحميه من الخطر والمد الشيوعي الزاحف الذي كان يتخوف منه، والهجوم السوفييتي الموهوم الذي كان يتوقعه، وكان يسعى للارتباط بعلاقات حسن جوار وتحالف مع جارتيه تركيا وإيران؛ دفعًا لأطماعهما وادعاءاتهما التاريخية ببعض المناطق الحدودية مع العراق، تلك كانت بعض الدوافع والمبررات التي دفعت نوري السعيد إلى التقاط واحتضان فكرة أو مشروع “حلف بغداد” وحماسه المفرط للانضمام إليه، حيث ظن أنه وجد ضالته فيه، فقد رأى أن هذا الحلف سيضم في البداية إلى جانب العراق 3 دول إسلامية كبرى هي إيران وتركيا وباكستان بالإضافة إلى بريطانيا العظمى وبرعاية الولايات المتحدة الأميركية التي طرحت الفكرة في الأساس العام 1953 فيما عُرف بمشروع “الحزام الشمالي”؛ ليكون حلقة متممة للأحلاف التي استهدفت تطويق المعسكر الاشتراكي، ولاسيما الاتحاد السوفياتي السابق. كان نوري السعيد على قناعة راسخة بأن انضمام العراق للحلف من شأنه أن يعزز موقع العراق على الصعيد الدولي ويضمن تدفق المساعدات العسكرية الغربية له وللعرب عامة، كان قلقًا من ضعف العراق عسكريًا ومدركًا لحاجته إلى التسلح وإعادة بناء الجيش وفق الأساليب الحديثة، وأن موارد العراق الاقتصادية لا تسمح بذلك، أما إذا نجح في دفع الأقطار العربية الأخرى في الاتجاه نفسه فان ذلك قد ينال بشكل أو بآخر من حظوة الكيان الصهيوني لدى الغرب.

وقد تم الإعلان عن تأسيس حلف بغداد في 24 فبراير 1955، وكان جواهرلال نهرو رئيس وزراء الهند من أوائل من عارض فكرة الحلف؛ لأن ذلك سيمد الباكستان بالكثير من عناصر القوة والمنعة، وشاركه في الاعتراض الرئيس جمال عبدالناصر لأسباب أخرى منها أن هذا الحلف يهدد الوحدة العربية، وتم الاتفاق بينهما على سحب البساط من تحت أقدام نوري السعيد بتأسيس منظومة بديلة باسم “حركة عدم الانحياز” يكون عبدالناصر من بين من سيتربع على رأسها، وانضم إليهما صديق الاتحاد السوفيتي الزعيم الاشتراكي اليوغسلافي الماريشال جوزيف بروس تيتو للمشاركة في حملات التصدي للحلف ولنوري السعيد.

وبالفعل أدركت إسرائيل خطورة مبادرات وإستراتيجيات نوري السعيد على مصالحها، وأعلن رئيس وزرائها دافيد بن جوريون أن “مبادرة الغرب إلى عقد اتفاق المساعدات العسكرية، وتنظيمات الدفاع، مع الدول العربية، قد أخلت بالتوازن السياسي، في منطقة الشرق الأوسط، في غير مصلحتنا، وأضر بمصالحنا، وزادت من الأخطار المحدقة بسلامتنا”.

شنت إسرائيل حملة مركزة ضد نوري السعيد وحلف بغداد، إلى جانب الحرب الإعلامية الشرسة التي شنها الرئيس جمال عبدالناصر ضدهما من خلال خطاباته التعبوية المؤثرة وباستخدام محطة “صوت العرب” النافذة ومذيعها العنيف أحمد سعيد بأسلوبه التحريضي اللاذع، واصطفت الدول العربية كلها وراء عبدالناصر في هذه الحرب، فسقط الحلف واغتيل نوري السعيد وسُحلت جثته في شوارع بغداد في 15 يوليو 1958. وضاع العراق بعدها، وتوسعت إسرائيل وتوثقت علاقتها بالغرب وألحقت هزيمة مؤلمة بمصر في حرب العام 1967، ولم تتحقق الوحدة العربية! هل كان نوري السعيد خائنًا وعميلًا للبريطانيين كما اتهمه أعداؤه ومناوئوه؟ أم كان سياسيًا محنكًا صاحب رؤية ثاقبة ملتزمًا بقناعاته ومتمسكًا بمبادئه ومخلصًا لقضايا وطنه وأمته؟

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية