العدد 3809
الأربعاء 20 مارس 2019
banner
قهوة الصباح سيد ضياء الموسوي
سيد ضياء الموسوي
المجد‭ ‬والاكتئاب‭ (‬3‭)‬
الأربعاء 20 مارس 2019

يقول غوستاف فلوبير صاحب إبداعية “مدام بوفاري”: “عندما يتحوّل الجرح إلى قوة جديدة، لي الحق أن أكتب الآن بيدي المحروقة عن سيرة النار”.

اسمحوا لي، إذا كانت ريشتي بلون دمع الفلاسفة، وحمرة جراح كتاب صنعوا المجد فافترسهم، أو ألقاهم في بحر الوجع الأبدي. لست سوداويًّا ولا أؤمن بلغة المناديل، ولا بمازوخية جلد الذات، ولا سادية نهش الواقع، ولا بارونويا تمثيل دور الضحية، وإنما هدفي من النزف من سيرة العظماء كشف السر، وإيجاد سترة نجاة حل.

محمد الماغوط أصيب باكتئاب حاد بعد وفاة زوجته الأديبة سنية صالح، فأغلق بابه عليه وتوقّف عن الكتابة، لو التفاف أصدقائه، فأخرجوه من حزنه فعاد بزوج كنسي مع ريشته، وهو القائل “أشعر أن شيئًا تحطّم في أعماقي غير الأضلاع، شيء أهم من العظام لا يمكن ترميمه على الإطلاق”.

ما الذي جعل الموسيقار موزارت ينسج بحزن “القداس الجنائزي”؟ كلنا انبهرنا بتماثيل النحات الإيطالي العالمي ميكيلا انجلو في كنائس أوريا، وكل المجد، ولكن من قرأ قلبه وخفايا دموعه؟ ما الذي جعل فولتير متشائمًا من نهاية الحضارة، وهو الذي عاشت الثورة الفرنسية على مائدة فكره مع روسو، وقد سجن في سجن الباستيل؟ أما جان جاك روسو فكان متشائمًا من الحضارة وقسوتها، فقد رمى الناس عليه الحجارة بسبب أفكاره لرفضه في زفات الرقص الجمعي. وفي مفارقة غريبة، دعا للمساواة وترك أولاده الخمسة في ميتم وفرّ هاربًا! وهو الذي نظر لتربية الطفل! هل هي العبقرية أم الجنون أم حزن مخفي يأكل قلوب صانعي المجد؟ كيف للفنان الإسباني العالمي سالفادور دالي يرهن حياته في حب امرأة فرنسية حتى قيل فيه “يعتبر البعض أن دالي لم يمت بالعام 1988، وإنما مات معنويًّا بالعام 1983 عندما فارقت حبيبته “غالا” الحياة..”. العظماء يموتون معنويًّا قبل رحيلهم أما بسبب خنجر الحب، أو لسعة عقرب صديق أو بسبب حماقة جمهور أو طعنة قدر أو خيانة الفرح، أو غربة الجمهور.

العظماء بعد المجد يبحثون عن أغلى شيء في الوجود، حب صادق بلا شروط، ولاء الروح لا صداقة المنصب والمال، فالمجد يصنع أعداء حقيقيين وأصدقاء مزيفين. من منا لم يستمتع بفيلم beautiful mind في تصوير العقل الجبار، العقل الاقتصادي للبروفسور جون ناش، عالم عبقري في الرياضيات حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد؟

إنه أسطورة اقتصادية لكن بجوارها اكتئاب حاد وعقاقير، فهو مصاب بانفصام وكان يعاني من الشيزوفرانيا أو ”الفصام”، ظل يسمع لفترة طويلة أصواتًا غير حقيقية، ويرى شخصيات وهمية.. وتم حجزه أكثر من مرة في عيادات نفسية، وخضع للعلاج بصدمات كهربائية وسقط من الأدوية. كما هو تقرير عن حياته.

حتى العظماء يحتاجون إلى رعاية فهم بشر والمجد لا يكفي. وماذا عن معاناة دافينشي وقسوة الأب وشكسبير ولعنة طبقة النبلاء ونزار قباني وموت ابنه وانتحار أخته وتفجير قتل زوجته في بيروت، وخليل حاوي والانتحار والروائي الإنجليزي الشهير تشارلز ديكنز صاحب رائعة اوليفر تويست، والروائية فيرجينيا وولف، والأديب كافكا وتيلستوي الذي مات غريبًا محطمًا في محطة قطار “آستابوفو” متأثرًا بالالتهاب الرئوي الذي قتله من شدة البرد القارس بعد أن هجر زوجته صوفيا كاتبًا لها “لم أعد قادرًا على ممارسة الحياة اليومية في هذه الرفاهية التي تحيط بي، وبات الثراء يخنقني”! فهل الثراء يخنق؟ إن الله خلقنا لنتمتع بجمال الحياة لا أن نصبح ضحايا الحزن! الحياة جميلة يجب أن نعيشها والإمام علي (عليه السلام) يقول عن الدنيا “ومزج حلاوتها بمرارتها”. دور المثقف أن يحمي ذاته والوطن والإنسانية بلا اندفاع، بل بتوازن كي لا يقع في صدمة حضارية.

ما حدث في نيوزيلندا يحتاج لعلاج حضاري بمنطق مانديلا وغاندي، وطاغور والإمام علي (عليه السلام)، وما يحدث في الحزائر يحتاج إلى فلاسفة مثل فولتير وروسو وديكارت وانجلز وكنت ونيتشه. وإن خطورة الوضع بالجزائر بعودة الفكر المتطرف من عباس مدني وغيره حيث يسقط المسرح ويعود ذات الممثلين. العرب بلا ثورة فكرية يقودون أنفسهم إلى حيث الفوضى الأبدية والنوم على طرف فوّهة الجحيم.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .