العدد 3869
الأحد 19 مايو 2019
banner
انعكاسات الحرب التجارية الدائرة الآن على اقتصادنا
الأحد 19 مايو 2019

نتذكر العام 1914م بأنه العام الذي اندلعت فيه الحرب العالمية الأولى التي أوقد شرارتها طالب صربي قام باغتيال ولي عهد النمسا وزوجته أثناء زيارتهما لمدينة سراييفو. راح ضحية تلك الحرب أكثر من 37 مليون شخص من مدنيين وعسكريين بين قتيل وجريح ومفقود.
ونتذكر العام 1939 بأنه العام الذي نشبت فيه الحرب العالمية الثانية التي أشعل نيرانها المستشار الألماني أدولف هتلر، وبلغ العدد الإجمالي للخسائر البشرية في تلك الحرب أكثر من 61 مليون قتيل بين مدنيّ وعسكريّ.
فهل سنتذكر في المستقبل العام 2018 بأنه العام الذي نشبت فيه الحرب العالمية التجارية التي أشعل فتيلها الرئيس الأميركي دونالد ترامب؟ مع العلم أن الحروب التجارية لا تختلف أضرارها كثيرًا عن الحروب العسكرية التقليدية، والفرق الأساسي بين الاثنين هو أن القنابل والصواريخ التي تستخدم في النزاعات العسكرية تستبدل بالرسوم والتعاريف الجمركية.
ففي بداية العام المذكور، وهو العام الماضي، شن ترامب أول معارك هذه الحرب التي هيأ لها الشعب الأميركي والعالم مسبقًا أثناء حملته الانتخابية عندما وعد فيها باستعادة العظمة الأميركية، وركّز على مقولة “المنتج الأميركي أولا”، ووعد بدعم التجارة الأميركية وجعلها منصفة أو عادلة لبلاده، حتى لو كان ذلك يهدد العرف الدبلوماسي بين الدول، وحتى لو كان تنفيذ هذه الوعود يجر الولايات المتحدة إلى حروب تجارية قد تكون آثارها بعيدة المدى وذات تأثير عميق مثلها مثل الحروب التقليدية، وذلك ردًا على ما تتعرض له الولايات المتحدة، كما يقول، من ممارسات تجارية غير عادلة على مدى سنوات من جانب الصين وغيرها من الدول، بما في ذلك اتهام هذه الدول بالسرقة والاعتداء على رصيد الملكية الفكرية الأميركية والاختراق والتجسس التكنولوجي والصناعي والسيبراني ما يشكل تهديدًا لأمنها القومي.
ولذلك، وبعد فوزه في الانتخابات وتوليه السلطة اشتعلت الحرب التجارية بالفعل بين أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم، عندما فتح ترامب جبهة الصين كأول الجبهات في معركته الأولى في هذه الحرب، وقتها اتهمت الصين الولايات المتحدة ببدء أكبر حرب تجارية فى التاريخ.
وباختصار شديد فقد بدأت هذه المعركة بجولات عدة من الرسوم الجمركية فرضتها الولايات المتحدة على المنتجات الصينية الواردة، وردت الصين هي الأخرى برسوم انتقامية على الواردات الأميركية. في الجولة الأولى فرضت الولايات المتحدة رسوما على 5000 منتج صينى بقيمة 250 بليون دولار، وهى تمثل نصف المنتجات الواردة من الصين، وردّت الصين بالمثل وفرضت رسوما على 5000 منتج أميركي.
وكان ترامب قد نفى في بداية المعارك أن يكون الخلاف مع الصين عبارة عن حرب تجارية؛ حيث صرَّح على تويتر قائلا: “لقد خسرنا الحرب منذ سنوات عدة، بسبب السفهاء والناس غير الكفوئين الذين كانوا يمثلون الولايات المتحدة... وأصبحنا نعاني من عجز تجاري يبلغ 500 مليار دولار في السنة مع عجز آخر يبلغ 300 مليار دولار بسبب سرقة الملكية الفكرية، ولا يمكننا السماح لهذا بالاستمرار”.
وكرر ترامب مطالبته الصين بإجراء تغييرات جوهرية في سياساتها وأساليبها، مثل تعديل سياساتها الصناعية ووقف دعمها للصادرات ورفع قيمة عملتها والكف عن سرقة حقوق الملكية الفكرية.
وواصل ترامب قصفه للهدف الصيني بزيادة الرسوم الجمركية من 10 % إلى 25 % على ما قيمته 200 مليار دولار أميركي أخرى من السلع الصينية المستوردة، ثم توسعت الجبهة لتشمل دول الاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك عندما قرر ترامب في الأول من يونيو من العام الماضي فرض رسوم ضريبية على واردات الصلب بنسبة 25 % والألمنيوم بنسبة 10 % من دول الاتحاد الأوروبي وكندا ومعظم دول العالم، بما في ذلك حلفاء الولايات المتحدة.
لقد بُذلت جهود مضنية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لإزالة الحواجز التجارية وتسهيل التجارة العالمية؛ ولذلك فإن زيادات الرسوم الجمركية من قِبَل دول تجارية كبرى تمثل تقويضا وإجهاضًا لتلك الجهود.
فمنذ بدء سريان الاتفاق العام بشأن التعريفات الجمركية والتجارة (الجات) في العام 1947، انخفض متوسط قيمة التعريفات المعمول بها في مختلف أنحاء العالَم بنحو 85 % نتيجة للتعاون المتعدد الأطراف ونتيجة لثمان جولات من مفاوضات التجارة العالمية بموجب اتفاقية الجات في البداية، ثم بموجب منظمة التجارة العالمية التي خلفتها. وكان خفض التعريفات الجمركية، إلى جانب التقدم التكنولوجي، سببًا في دفع التوسع الملحوظ في التجارة العالمية حيث ارتفعت حصة التجارة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي ووصلت اليوم إلى 60 % مقارنة بنسبة 24 % في العام 1960.
وقد أدى توسع التجارة إلى إنعاش النمو الاقتصادي، وخلق مزيد من فرص العمل، وزيادة دخول الأسر في مختلف أنحاء العالَم. وشهدت العشرات من الدول النامية نموا اقتصاديا مؤثرًا وتغيرات اجتماعية إيجابية، كما أتاح توسع التجارة تحقيق واحد من أكبر الإنجازات في تاريخ البشرية وهو انتشال مليار إنسان من براثن الفقر في غضون عشرين عاما فقط.
إن الحرب التجارية التي بدأت رحاها بالدوران الآن بين عمالقة الاقتصاد في العالم سيكون لها دون شك تأثير سلبي على القوة الشرائية لدى الأسرة الدولية ككل، فمنتجات أطراف النزاع بعد إضافة الرسوم الجمركية الجديدة سترتفع أسعارها بالنسبة للمستهلكين حول العالم، ولذلك فإن التأثير السلبي على النمو لن ينحصر فى الدول المتحاربة تجاريًا بل إنه سيتمدد وينسحب على الصعيد التجارى العالمى أيضا.
إن هذه الحرب ستعود بالضرر والخسارة على أطرافها أولًا دون شك، لكنها ستكون السبب الرئيس لحالة الركود التي ستطال اقتصادات كل دول العالم، وفي مقدمتها اقتصادات دول مجلس التعاون، وإذا استمرت الحرب أو تصاعد وطيسها فإن ذلك سيؤثر سلبًا على النظام الاقتصادي العالمي الحر، وقد يفضي إلى تراجع حركة التجارة الدولية وإصابة الاقتصاد العالمي بالركود وتفاقم الأزمات الاقتصادية من بطالة وغلاء وتدني مستويات المعيشة وإفلاس الكثير من الشركات والمؤسسات في مختلف دول العالم.
وقد أدت الحرب بين الولايات المتحدة والصين في مرحلتها الأولى وحتى الآن إلى تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي ليبلغ 2.9 % وسينخفض إلى 1.7 % في العام 2020.
وحول من يشعر بآلام تلك الحرب ومن يجني مكاسبها؟ وماذا يعني الجدل المستمر بالنسبة للبلدان النامية؟
فقد أكدت دراسة نشرها مؤخرًا مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) أن التراجع الاقتصادي غالبا ما تصاحبه اضطرابات في أسعار السلع الأساسية والأسواق المالية والعملات، وكل ذلك ستكون له تداعيات مهمة على البلدان النامية. ويتمثل أحد المخاوف الرئيسية في احتمال أن تتصاعد التوترات التجارية لتصبح حروب عملات، مما يجعل من الصعوبة بمكان سداد الديون بالدولار.
وثمة قلق آخر تشير إليه دراسة “الأونكتاد” وهو أن مزيدا من البلدان قد تنضم إلى النزاع، وأن السياسات الحمائية يمكن أن تتصاعد إلى مستوى عالمي.
وهناك مثل أفريقي قديم يقول: “عندما تتقاتل الأفيال فإن الحشائش والأعشاب هي التي تعاني”. وينطبق القول نفسه على الحروب التجارية الكاملة النطاق؛ فعندما تتصادم الاقتصادات الكبرى، تكون البلدان النامية بين الاقتصادات الأشد تضررا.
وبالنسبة إلينا في دول مجلس التعاون الخليجي، فإن اقتصادات دولنا أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الاقتصاد العالمي، بل إن الاقتصاد الخليجي يعد من أكثر اقتصادات العالم تماهيًا واندماجًا في الاقتصاد الدولي.
ولذلك، فإننا لن نكون في معزل أو مأمن من الآثار السلبية التي سيتعرض لها الاقتصاد العالمي جراء هذه الحرب، على الرغم من أن ميزان الفائض التجاري بيننا وبين الولايات المتحدة يميل لصالح الأخيرة، ما يعني أن دول الخليج تستورد من أميركا من المنتجات أكثر مما تصدره لها.
وبما أن اقتصاد دول مجلس التعاون يعتمد بشكل رئيس على النفط كمصدر للدخل فإنه على المدى الطويل، إذا استمر وتوسع تبادل الإجراءات الوقائية والانتقامية بين أطراف الحرب التجارية، فإن ذلك سيؤدي إلى انخفاض حجم التجارة العالمية والإنتاج، وبالتالي تراجع الطلب على الطاقة وانخفاض أسعار النفط، وبالنتيجة تدني إيرادات دول المجلس، وهذا ما سيدفع بدوره إلى زيادة العجز المالي في الموازنات الخليجية.
ومع تصاعد واتساع التوترات والمنازعات التجارية فإن الأسواق ستعاني من تقلبات كبيرة، وقد يتجه البنك المركزي الأميركي ( الاحتياطي الفيدرالي الأميركي) إلى رفع أسعار الفائدة، مما قد يؤثر على دول الخليج التي تربط عملاتها بالدولار مثل مملكة البحرين.
كما إن معدن الألمنيوم من المواد التي طالتها القرارات الأميركية بفرض ضريبة استيراد قدرها 10 %، ودول مجلس التعاون من أكبر الدول المنتجة والمصدرة للألمنيوم في العالم، حيث تبلغ طاقتها الإنتاجية الحالية 5.3 مليون طن وسترتفع إلى 6 ملايين طن سنويا بحلول العام 2020، تستهلك منه 40 % محليًا لصناعاتها التحويلية من الألومنيوم، وتصدر الباقي إلى أكثر من 100 دولة في مختلف أنحاء العالم في أوروبا وآسيا ومنطقة الشرق الأوسط إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية.
إن دول مجلس التعاون تقف كثالث أكبر مُصدر للألمنيوم إلى الولايات المتحدة بعد كندا وروسيا، وأن السوق الأميركية تستحوذ على 18% من إجمالي إنتاج “شركة الإمارات للألمنيوم” بواقع 450 ألف طن سنويا على سبيل المثال.
وسيسبب فرض الرسوم الأميركية، لحماية المنتجات المماثلة المصنعة من الألمنيوم في الولايات المتحدة، زيادة في معروض هذه السلع داخل الأسواق الإقليمية والعالمية، ما يدفع نحو خفض أسعارها لتسجيل مبيعات جديدة.
ومن المتوقع أن يكون تأثير القرار الأميركي على صناعة الألمنيوم في الخليج كبيرًا حال اكتمال مشاريع زيادة الطاقة الإنتاجية في المملكة العربية السعودية التي خُطط لها لتكون الأكبر في المنطقة، والتي بدورها وضعت في حساباتها الرهان على التصدير للسوق الأميركية التي تستورد أكثر من 90 % من احتياجاتها من منتجات الألمنيوم والتي تقدر بحدود 5.8 مليون طن سنويًا في حين إنها تنتج مليون طن فقط، وعليه فقد بات على منتجي الألمنيوم الخليجيين التنسيق فيما بينهم وتوحيد جهودهم وتكثيفها في سعي جاد للحصول على استثناءات أميركية من زيادة الرسوم على واردات الألمنيوم التي فرضتها الولايات المتحدة، بحكم الشراكة الإستراتيجية التي تربط الولايات المتحدة بدول مجلس التعاون في المجالات الاقتصادية والتجارية والسياسية وغيرها.
وتسعى مملكة البحرين جاهدة، بشكل خاص، لصون مكانتها كمركز مالي إقليمي والمحافظة على مكتسباتها في هذا المضمار، وهو أمر يستوجب في هذه الظروف متابعة المخاوف التي يبديها الخبراء المعنيون من حدوث أزمة مالية نتيجة للحرب التجارية شبيهة بأزمة العام 2008 على الرغم من اختلاف الظروف التي خلقت الأزمة المالية السابقة واستعداد المصارف المركزية العالمية للتعامل مع أي هزة مستفيدة من دروس تلك الأزمة.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية