العدد 3890
الأحد 09 يونيو 2019
banner
ماذا يقولون في شرق وجنوب شرق آسيا؟
الأحد 09 يونيو 2019

أنا الآن في بانكوك، وسأبقى فيها بعض الوقت، ومن بانكوك، عاصمة تايلند، ومقر أكبر سفارة أميركية في جنوب شرق آسيا، يستطيع المرء أن يجس النبض بشكل أفضل ويرى بشكل أوضح ما يدور الآن في شرق وجنوب شرق آسيا من ردود فعل على مواقف وتصرفات وسياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، خصوصًا جولاته وصولاته في ميادين الحرب التجارية التي شنها ضد الصين.

وكما هو معروف، فإن أمن الولايات المتحدة صار، وفق الرؤية السائدة اليوم في واشنطن، يتوقف على قدرتها على تحقيق جملة من الاستحقاقات، منها تغيير الجغرافيا السياسية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، ولذلك أصبحت تايلند نظرا لدورها وموقعها الجغرافي الإستراتيجي تحظى بأهمية متزايدة في رسم سياسات الولايات المتحدة في المنطقة، وبالنتيجة فإنَّ مواقع المتابعة والرصد لتطورات وتداعيات هذه الحرب وما يجري لكل الأطراف المعنية بها صارت متركزة في بانكوك، إلى جانب ذلك، فإنَّ تايلند هي أقدم حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، وأقدم دولة آسيوية تربطها معاهدة تحالف معها، وتعود الصداقة بين الولايات المتحدة وتايلند إلى العام 1833. تلك الصداقة تطورت إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية والاقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية عندما كان للولايات المتحدة قواعد عسكرية في هذا البلد خلال حرب فيتنام ثم حرب الخليج، إلا أنَّ هذه العلاقة فترت وتراجعت في عهد الرئيس أوباما إثر الانقلاب العسكري الذي وقع في تايلند في العام 2014 وأطاح بالحكومة المنتخبة فيها؛ وذلك تعاطفًا أو نصرة من جانب حكومة أوباما لقضايا الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان!

إن الرئيس دونالد ترامب، الذي تولى السلطة في العام 2017، ليس معنيًا بقدر ملحوظ بمثل هذه القضايا، وهو يدرك الأهمية الإستراتيجية لموقع تايلند الذي أصبح الآن أكثر أهمية بالنسبة إلى الولايات المتحدة، على ضوء صراعها التجاري مع الصين وتجاذباتها مع كوريا الشمالية، مما أدى إلى قيام الإدارة الأميركية بمراجعة موقفها من تايلند وترميم العلاقة معها بشكل سريع؛ لتصبح هذه العلاقة جزءا من إستراتيجية الولايات المتحدة لاحتواء الصين، ولإدارة سياساتها في المنطقة.

المراقبون والأطراف المعنية في شرق وجنوب شرق آسيا، مثل غيرهم، قلقون من توجهات وتقلبات السياسة الخارجية للرئيس ترامب، ويدركون جيدا أنه يسعى جاهدا، منذ توليه السلطة، إلى إثبات مقدرته على الوفاء بالعهود والوعود التي أطلقها وأعطاها لناخبيه، وهو في أمسّ الحاجة إلى تحقيق إنجاز أو اختراق أو نصر، ولا يمكن تحقيق نصر إلا بوجود عدو أو منافس تتم مواجهته والتغلب عليه.

وبعقلية التاجر المساوم والمقامر اختار ترامب أن يكون له أكثر من هدف وأكثر من عدو وأكثر من منافس، فاستهدف منذ البداية أموال دول مجلس التعاون، والمسلمين، والمكسيكيين والمهاجرين عمومًا، والصين، وكوريا الشمالية و”رجل صواريخها”، وإيران، ودول الاتحاد الأوروبي وغيرها.

يقولون في شرق وجنوب شرق آسيا إن الرئيس ترامب استطاع أن يحصل على وعود واتفاقات على إبرام صفقات تجارية وتسليحية مع دول مجلس التعاون الخليجي تبلغ قيمتها المليارات من الدولارات على مدى فترات زمنية تمتد لسنوات ومقرونة أو ربما مشروطة بالتزام الولايات المتحدة بالوقوف الفوري والحازم مع دول المجلس في صراعها مع إيران.

ويقولون أيضًا إن ترامب نفذ بالفعل تهديده بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وكثف إجراءات المقاطعة التي أدت إلى خنق الاقتصاد الإيراني، لكنه لم يتمكن حتى الآن من إقناع أو إجبار إيران على الجلوس معه على طاولة المفاوضات لإعادة التفاوض حول بنود الاتفاق. ويميل المراقبون هنا إلى تهوين التهديدات الأميركية باستعمال القوة العسكرية ضد إيران، ويرون أن ترامب لم ولا ينوي المبادرة والشروع بشن حرب ضدها، وهو لا يرغب في المجازفة بالدخول في أي حرب غير مضمونة النتائج أو تكون شبيهة بتجربة أميركا في حربها التي خاضتها في أفغانستان والعراق، ولا شنَّ أي حرب تؤدي إلى زيادة الأعباء والالتزامات المالية على الولايات المتحدة، إلى جانب أن شن الحرب سيتناقض مع وعوده لناخبيه بإعادة الجنود الأميركيين إلى وطنهم وخفض التورط العسكري الأميركي في الشرق الأوسط؛ لذا أصبح من المؤكد أن ترامب سيكتفي بالسلاح الاقتصادي الذي بدأ يؤتي أكله، وقد أصبح واضحًا أن الهدف من التصعيد ومن الحشود العسكرية والتهديدات الأميركية التي أطلقها ترامب ضد إيران كان لتأكيد الجدية.

ولتأكيد الاستعداد للردع والرد ولمواجهة أي حماقة قد ترتكبها إيران تحت ضغط العقوبات بالتعرض للمصالح الأميركية في المنطقة أو محاولة التأثير على أمن الملاحة في مضيق هرمز. وقد نجحت هذه الإستراتيجية في كبح جماح إيران التي تخلت عن تهديدها بإغلاق مضيق هرمز حتى بعد أن تم تصفير إمكانات إيران لتصدير نفطها.

وبهذا الصدد، يقولون في شرق وجنوب شرق آسيا إن الرئيس ترامب، الذي يحب أن يحتل العناوين الرئيسة، وما يزال يعتقد بأن لديه حدسًا لا يُخطئ في شؤون السياسة الخارجية ودهاليزها، وبأنه مقتنع بموهبته الفذة في خوض مفاوضات مباشرة مع القادة الدوليين، فإنه يتطلع الآن وبتلهف إلى الاجتماع بالرئيس الإيراني حسن روحاني في لقاء ربما يكون شبيها بلقائه برئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون، ذلك الاجتماع الذي أدى في الواقع إلى التخفيف من العزلة الدولية لكوريا الشمالية وأكسب زعيمها شرعية ومكانة دولية، ونقله من شخص منبوذ إلى رجل دولة، من دون أن يحصل ترامب على أي شيء تقريبا في المقابل، بل إنه تعهد للزعيم الكوري بوقف المناورات العسكرية التي كان من المزمع إجراؤها مع كوريا الجنوبية.

ويقولون هنا في شرق وجنوب شرق آسيا أن على ترامب أن يدرك ويستوعب أن هيمنة أوروبا وشمال الأطلسي على الاقتصاد العالمي لأربعة قرون قد انتهت، فالواقع يؤكد أن خارطة القوة الجديدة تشير إلى تحول مركز الثِّقَل الاقتصادي العالمي من منطقة الأطلسي إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وهو واقع لا ينسجم مع خارطة الطريق التي يحاول ترامب رسمها للعالم في القرن الواحد والعشرين.

في شرق وجنوب شرق آسيا لا ينكرون أن الولايات المتحدة ما تزال هي القوة العظمى الرائدة على مستوى العالم، إلا أنهم يقدرون ويدركون معنى صعود الصين وانطلاقها بكثافة بشرية تبلغ 1.4 مليار نسمة كقوة آسيوية جيوسياسية متجددة بجذور مترسخة في أعماق تربة التاريخ قبل أن تظهر الولايات المتحدة للوجود بقرون عديدة، مع ذلك فإنهم قلقون ومتوجسون من تصاعد الضغوط الأميركية ضد الصين التي ما تزال صامدة وتتجه نحو المواجهة والتحدي، ويدركون أيضًا أن الإجراءات التي اتخذها ترامب ستؤدي إلى الإضرار بالصين وعرقلة نموها، وستكون لها تداعيات سلبية خطيرة على اقتصادات دول المنطقة بأسرها، لكنهم أمام تصلب الإدارة الأميركية الحالية أصبحوا يقولون إن العبرة في النهاية، إذ إن هذا الوضع سيدفع حكومات وشعوب هذه المنطقة إلى التعاون فيما بينها والترفع عن خلافاتهم وتجاوزها، وأن سياسة ترامب ستؤدي في النهاية إلى جعل الصين “عظيمة مرة أخرى”، وليس استعادة “عظمة أميركا” التي يسعى ترامب إلى تحقيقها، ويؤكدون أن حرب أميركا التجارية ستكون لها نتائج عكسية على الولايات المتحدة، وأن الضغوط التي يمارسها ترامب والتعريفات التي يفرضها على دول العالم شرقًا وغربًا بما في ذلك أقرب حلفائه سوف يدفعهم عمليًا تجاه الصين، فالمصدّرون الأوروبيون واليابانيون على سبيل المثال سيتوجهون إلى السوق الصينية إذا واجهوا حواجز الحماية التجارية في الولايات المتحدة، إضافة إلى أن التصدع الذي أحدثته سياسات ترامب في العلاقات الأميركية الأوروبية سيصب، بطريقة أو بأخرى، في صالح الصين ويؤدي إلى تقوية ما سمي بـ “التمحور باتجاه آسيا”.

وعندما انسحب ترامب من “اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ” التي وصفها الرئيس السابق أوباما بأنها “جديدة من نوعها تستهدف تحسين معايير العمل وفتح الأسواق أمام السلع الأميركية ومواجهة سيطرة الصين على المنطقة”، فإن ذلك الانسحاب أحدث أيضا تصدعا عميقا للسد المكون من الدول المطلة على المحيط الهادئ، والذي كان سيقف بقيادة أميركا في مواجهة الصين واحتواء ثقلها المتزايد، مما اضطر اليابان إلى الإقرار بقوة الصين الاقتصادية المتنامية والعمل على استيعابها، بل إلى دعوة الاقتصادات الأقوى في المنطقة، وهي الصين واليابان وكوريا الجنوبية لتشكيل كتلة اقتصادية واحدة والمساهمة في نشر السلام والرخاء في المنطقة والتعاون؛ لمواجهة السياسات والضغوط الأميركية.

ولذلك، فإنهم يقولون في شرق وجنوب شرق آسيا: “رب ضارة نافعة”.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية