العدد 3947
الإثنين 05 أغسطس 2019
banner
قهوة الصباح سيد ضياء الموسوي
سيد ضياء الموسوي
تحاصرنا مكاتبنا الخشبية كزنزانات حريرية (25)
الإثنين 05 أغسطس 2019

تخنقنا الحياة بقفازي المدنية الناعمين إلا من حب، تحاصرنا مكاتبنا الخشبية  كزنزانات حريرية الخارج، مثقوبة الداخل كثياب مرقعة لعجوز ملقى على رصيف مقهى كولومبي عتيق. مصابون بذبحة صدرية من أخبار السياسة الخانقة وتكرار الوجع كل صباح، مخنوقون من تجار السياسة الذين ما زالوا يرددون أغنية شيرين “مشاعر ....مشاعر” وهم قطعة حديد. نتآكل كل يوم من روتين المجاملات المهندسة حيث لا روح، والمفروضة كزي رسمي كأننا عمال في شركة عملاقة لبيع الصخر والإنسانية. تتكرر الأوجه حيث لا ماء ولا جلاء.

تتكرر ذات الأمكنة، ذات المعلومات الشاحبة، نزداد منغصات وننقص إحساسا، فاستبدلنا الوجوه الجميلة، والزمن الجميل بشخوص مطحونة العقد. تقتلنا “متلازمة استكهولم” حيث يدافع  المختطَف عن الخاطِف وهو خاطفه، فكيف لرهينة تستلذ بقمع الخاطف؟!!

كلنا متصحرون عاطفيا، نتحايل عليه بالبحث ولو عن كلمة حب مغشوشة في سوق سوداء، حيث الحب أصبح كغسيل الأموال نمارسه كلعبة مكسيكية، كـ”الجابو” المكسيكي و”اوسكبار” الكولومبي، وكل أباطرة المخدرات.

ما أتعس أن يكون الحب مخدرا! نرضى ولو بفأرة تحمل شيئا من صدق المشاعر، ولو جرادة عزباء تصدقنا الشعور، نبحث عن قطرة صدق ولو من مكان يعيد لنا صدق من فقدناهم في هذا الزمن، زمن الفاستفود العاطفي الموزع في الطرقات، مرددين في خيبة أمل قول محمود درويش “إن أعادوا لك المقاهي القديمة، فمن يعيد لك الرفاق؟” متصحرون حد العظم إلا من عضات الحبيب والصديق والقريب، عضات تحولت إلى اكسسوارات صدئة على قلوب أضناها القدر أملا في حب خالص كبياض قطعة ثلج مهربة من جبال “ألألب” هاربون “كاوجلان” من محطة إعدام، بريئون كطفلة لويس السادس عشر بين شكل قطعة بسكويت و مقصلة ثورية تحن إلى رقبة الصغار من ثوار كرهوا سجن الباستيل حتى أصبحوا ذات الباستيل أو أشد في زمن فرنسي تعيس.

نهرب من جزر البحر فيتقاذفنا مدُ “يخة” كبير يبتلع جمال بحر باورستقراطية  النبلاء، وشو الغواني المستحمات في جاكوزي عرق المهمشين. نعاقب الحاضر بماضي لا نمسك خيوط جماله الحريري. نحّن إلى كلمة حبيبة، سلمناها كل ممتلكات قلوبنا من مشاعر وأحاسيس، فكانت أشبه بحانوت يعتاش على زيادة الموتى في جبانة العشق الرخيص حين تسلمنا للموت بعد أن تمارس علينا القصاص العاطفي!!! إلى أين نمضي، ولم يبق من قنينة الصحة سوى صبابة مازالت تتقاسمها السياسة في سوق النخاسين. صعاليك بلا مأوى، ولا ميتم، ولا ملجأ. وهذا هو الزمن يستلب ثياب وجودنا المطرز بحنان آلام ووداعة الحب، والأصدقاء الطيبين في تزاحم بين قبور سلمناها أغلى ما نملك من أم وصديق وحبيب كما حن المتنبي لجدته قائلا في رثائها، وكان يحبها حبا جما:

    أحِنّ إلى الكأسِ التي شرِبَتْ بها    وأهوى لمَثواها التّرابَ وما ضَمّا

    بَكَيْتُ عَلَيها خِيفَةً في حَياتِهـــــا    وذاقَ كِلانا ثُكْلَ صاحِبِهِ قِدْمَا

    أتاها كِتابي بَعـــدَ يأسٍ وتَرْحـــــَةٍ    فَماتَتْ سُرُورا بي فَمُتُّ بها غَمّا

    حَرامٌ على قَلبي السّرُورُ فإنّنـــــي    أعُدّ الذي ماتَتْ بهِ بَعْدَها سُمّا

وها نحن نحاول جادين إعادة صفقة مع كل فوضى الماضي الذي قسى علينا، نستبدله ولو بشي من نفايات السعادة الملقاة على مائدة المنتفخين بها، غير مكترثين أن نحصل على شيء من سعادة ملقاة على الطرقات أو شيئا من الشعور الصادق على الأرصفة، حالنا حال عجوز المتنبي، فحتى الشيخ العجوز لا يمل  الحياة إذا ملأ كوخه آهات وإنما الضعف ملا:

    وَلَذيذُ الحَيَاةِ أنْفَسُ في النّفْــسِ     وَأشهَى من أنْ يُمَلّ وَأحْلَى

    وَإذا الشّيخُ قَالَ أُفٍّ فَمَــــــا         مَــلّ حَيَــــــاةً وَإنّمَا الضّعْــــــــفَ مَلاّ

    آلَةُ العَيشِ صِحّةٌ وَشَبَـــــــــــابٌ           فإذا وَلّيَــــــــا عَـــــــنِ المَـــــــــرْءِ وَلّى

تمسكوا بالحياة وثقافة الحياة مهما كانت كأس الحياة مرة، فمن طبيعتها المرارة والحلاوة. لا تنتظروا من السياسة أن تشفق عليكم. لا تنتظروا أن يفهمكم من تحبونهم إذا كانوا ملتصقين باليأس، لا تعلقوا آمالكم على الحب أو المنصب أو الصديق. حتى ظلك قد يخذلك في الظلام. كن صديق ذاتك وطر بحرية، فالحياة قصيرة.

الحماقة أن تقوم بذات الطرق التعيسة، وتنتظر نتائج سعيدة مختلفة كما يقول أينشتاين: “الجنون هو أن تفعل نفس الشيء مرة بعد أخرى وتتوقع نتائج مختلفة!”. أعد جدولة الأصدقاء والأزمنة والأمكنة، وحلّق مع السعادة.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية