العدد 4201
الأربعاء 15 أبريل 2020
banner
عمود أكاديمي د. باقر النجار
د. باقر النجار
هل سيتغير العالم مع جائحة كورونا؟
الأربعاء 15 أبريل 2020

جائحة الكورونا ليست أزمة تخص بلدا أو إقليما معين، بل إنها وبفعل اختراقها كل بقاع العالم، فإن تأثيراتها لن تكون موضعية قطرية أو إقليمية وإنما هي في أثارها ذات تأثير كوني ولن تقتصر على تلك الآثار الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية التي بتنا نشعر بها، وإنما العالم مقبل على تغيرات هيكلية أساسية ليس فقط من حيث مواقع الدول وتأثيراتها على الخريطة العالمية، وإنما في واقع الأمر هذه الدول هي مقبلة كذلك على تغيرات داخلية في طبيعة الدولة والقوى الماسكة بها وعلاقاتها بالخارج وتموقعها على الخريطة الدولية، وإذا ما كانت الحربان العالميتان الأولى والثانية قد أعادت رسم هيكلية العالم وفق معطيات جديدة.. رسمتها الدول المنتصرة في الحرب. من الناحية الأخرى، فإن جائحة كورونا بدت معجلة لتحولات دولية كانت تختمر قبل اجتياحها بقاع العالم. وإذا ما كانت الحروب الحديثة خلال القرن العشرين الماضي قد شكلت المعطيات التي أقيمت عليها العلاقات الدولية المعاصرة، فإن حرب كورونا على العالم باتت قادرة على إعادة تشكيل هذه الهيكلية وفق معطيات جديدة. بل إنه يمكن القول إنه إذا ما كانت الحرب العالمية الثانية قد عبرت بمركز ثقل العالم من أوروبا إلى العالم الجديد، فإن حرب كورونا تؤذن بنقل هذا الثقل لعالم الشرق القديم، وهو انتقال لن يتم غدا أو بعد غد وإنما كل المعطيات تشير أن هذا الانتقال قد بات حتميا، وهو تغير سيأخذ فسحته الزمانية، وهي فسحة قد تطول إلا أنها قد باتت واضحة في إرهاصاتها العامة.

وقد تمثل السياسات والإجراءات التي تبنتها الدول في مواجهة الوباء مؤشرا مهما على قدرة الدولة ليس فقط في مواجهة الوباء والقضاء عليه، وإنما قد يعبر كذلك على تماسك الدولة ونجاعة إجراءاتها. وهي تعكس في نفس الوقت نمط الإدارة وصراعات القوة بين أطراف الدولة المختلفة. وتمثل مثلا قدرة الصين على مواجهة الوباء وضبط انتشاره وكفاءة إدارتها للأزمة وخروجها السريع نسبيا رغم ضخامة الخسائر الاقتصادية التي لحقت بها، تماسك الدولة واستمرار هيمنتها على المجتمع ووضوح الرؤية عند متخذي القرار. وأعتقد أن ذلك سيستمر معها لعقود قادمة، وهو ما قد يؤهلها بالإضافة للأسباب الأخرى الاقتصادية والتقنية والسياسية من أن تموضع نفسها كقوة مؤثرة وليست الوحيدة على الساحة الدولية. بمعنى آخر أن الطبيعة السلطوية للدولة قد مكنتها بالإضافة للأسباب الأخرى من تجاوز مرحلة الخطر في حربها على الوباء وعدم السقوط في الفوضى، وهو اجتياز بات في كل تقنياته وإجراءاته، بالنسبة للكثير من الدول الآن، نموذجا مهما في حربها للقضاء على الوباء.

في المقابل، فإن فشل إدارة الأزمة في بعض الدول الغربية والولايات المتحدة الأميركية يمكن أن يقود في ظل استمرارية الأزمة، إلى حالة من حالات الفوضى التي من خلالها يمكن أن تستولي على الشارع، إحدى الجماعات الخارجة على القانون، أو أننا من الممكن أن نشهد نوعا من التمرد الاجتماعي أثناء أو بعد الأزمة تقوده الجماعات المتضررة من انتشار الوباء سواء أكان ذلك صحيا أو اقتصاديا ولربما اجتماعيا، وهو أمر قد يطيح ببعض إنجازات الحضارة الغربية السياسية والاقتصادية والثقافية. وهذا ما يفسره انتشار أخبار غير رسمية وغير مؤكدة من لجوء بعض أثرياء العالم للتواري في ملاجئ محمية خارج المدن وسرية المواقع. فتوقف الآلة الصناعية في الصين وبعدها في الغرب والولايات المتحدة الأميركية يكاد أن يكون قد شل الاقتصاد العالمي وأرسل خسائر فادحة لكل اقتصادات العالم، وهوى بأسعار مواد الطاقة في العالم.. أوقف أو منع الناس من العمل، ما رفع بالتالي من نسب البطالة في كل دول العالم لدرجة أنه قد تجاوز العشرة ملايين عاطل في النصف الثاني من شهر مارس الماضي في الولايات المتحدة الأميركية، وأخرج القطاعات المتوسطة والصغيرة عن كل العمل وأفقر أولئك الذين كان رزقهم يعتمد إما على أعمالهم الهامشية اليومية أو تلك الأعمال الفرعية البسيطة التي تسند لهم من قبل الشركات الكبرى أو المتوسطة. وهي حالة مع استمرارها لفترات أطول يمكن كما أشرنا أن تقود إلى نوعا من التمرد الاجتماعي، ما يخلق نوعا من الفوضى الاجتماعية والسياسية في هذه المجتمعات.

أما التحول الآخر المهم الذي يمكن أن يأتي على الدولة في هذه المجتمعات هو ما كشفته الأزمة عن فشل في خدمات الدولة الصحية، والتي أصابها في بعض هذه الدول قدارا كبيرا من التدهور، إن لم يكن يمثل سقوطا لمنظومة خدماتها الصحية، والتي يتم الإنفاق عليها من جيوب دافعي الضرائب نتيجة للسياسات النيوليبرالية التي دفعت نحو تبنيها المؤسسات المالية الدولية. ولربما يقدم المثال الإيطالي والإسباني والبريطاني نماذج لفشل الدولة في مواجهة أزمة كورونا والارتفاع الكبير في حجم الوفيات والإصابات في أوساط السكان وعجز الدولة عن ضبط انتشاره والسيطرة علية. بل إن هذه الأزمة قد كشفت عن معاناة المستشفيات الحكومية من نقص في الكوادر الطبية وفي الأجهزة الطبية كنقص في أجهزة التنفس وتلك ذات العلاقة بحماية الطواقم الطبية، والذين بسبب ذلك انتقلت العدوى لبعضهم وأدت إلى وفاة البعض الآخر منهم..

ولابد من الإشارة هنا إلى أن فشل الدولة في الغرب في إدارة أزمة الكورونا إنما يعكس طبيعة الأزمات السياسية التي تعاني منها هذه الدول وعجز أي من أحزابها السياسية عن الاستمرار في مركز السلطة طويلا، إضافة لما تعانيه هذه الدول من مشكلات ومآزق اقتصادية عمقت من مشكلاتها السياسية وأضعفت من أداء مؤسسات الدولة لوظائفها...

وقد يقدم النموذجان الألماني والفرنسي حالة مختلفة عن النماذج الأوروبية الأخرى المأزومة، إلا أنهما تعانيان من تدنٍ في شعبيتهما السياسية وتنامٍ كبير في قوة اليمين المتطرف وتحديدا في فرنسا. وقد تنفرد بينهم جمهورية ألمانيا الاتحادية من حيث أن جودة إدارتها للأزمة قد انعكس في قلة الوفيات والإصابات بين سكانها مقارنة بالدول الأوروبية الأخرى.

من الناحية الأخرى، فإن فشل جل الدول الأوروبية في أدارة أزمة جائحة كورونا وعجزها عن تلبية حاجات السكان الطبية سيدفع دافعي الضرائب الأوربيين نحو البحث عن صيغ جديدة في علاقة الدولة بالمجتمع تتجاوز في ذلك الصيغ القائمة ولربما يقود ذلك للإطاحة بالطبقة السياسية القائمة التي بات ينسب لها كل الفشل السياسي والاقتصادي، وليس من المستبعد أن يقفز إلى السلطة اليمين الأوروبي المتطرف الذي بات فشل الطبقة السياسية الحاكمة تقوده وبقوة لقيادة الدولة. كما ستقود حالة الضعف الذي باتت تعانيه الدولة في أوروبا إلى تنامٍ، ما يجعل منها في موقع أضعف أمام الحركات الانفصالية.. بمعنى آخر، فإننا قد نشهد ومن جديد مطالبات انفصالية جديدة في أوروبا ولربما في أقاليم أخرى من العالم كنتيجة لهذه الأزمة. وهو فعل سيطيح بكل الصيغ الاتحادية التي عملت أوروبا على تعزيزها خلال القرون الخمسة الأخيرة.

وأخيرا، فإن الأزمة قادت كما يبدو إلى قدر من الفوضى الدولية وتحلل الدولة أو بعض الدول من القوانين الدولية الضابطة لسلوك الدول والحافظة لحقوقهم. كاتهام الولايات المتحدة الأميركية بالاستيلاء على شحنة من “الكمامات” التي كانت مشحونة من الصين لألمانيا، وكذلك اتهام تركيا بالاستيلاء على شحنة من أجهزت التنفس (فنتيليتر) التي كانت هي الآخر مشحونة من الصين إلى إسبانيا، والاتهامات التي وجهت لدول أخرى كإيطاليا والتشيك وكينيا بالاستيلاء على كمامات وأجهزة طبية تستخدم في علاج وباء الكورونا، وهي كلها أمثلة تعكس حالة الفوضى التي بات عليها سلوك الدول، وهي فوضى قد تتسع مع استمرار الأزمة واجتياحها دون هوادة لبعض الدول. وتطرح هذه الفوضى تساؤلات حول مستقبل القانون الدولي في ظل استمرارية جائحة كورونا...

وخلاصة القول إن السياسات النيوليبرالية التي تبنتها معظم الحكومات الغربية خلال العقود الثلاثة الماضية قد أطاحت بدولة الرفاه وأطاحت معه بكل منظومة الخدمات الاجتماعية التي يأتي التعليم والصحة على رأسها.. ونتيجة لذلك لم تصمد طويلا خدماتها الصحية أمام اجتياح وباء الكورونا، فهوت معه كل منظوماتها الصحية. وهو سقوط يحمل في طياته تبعات سياسية واقتصادية كبيرة ليست عليها فحسب وإنما على العديد من أقاليم العالم. فهل يؤذن ذلك بانهيار الغرب والولايات المتحدة الأميركية كما توقع البعض. وبالمقابل أعتقد أننا قد دخلنا مرحلة مفصلية في تاريخ العالم فقوة وسطوة الغرب والولايات المتحدة الأميركية لن تنهار أو تغرب، كما رغب أو اعتقد البعض، إلا أنها دون شك ستضعف ولن تختفي وسينشغل خلالها الغرب بترميم بيته أو في إنهاء صراعاته الداخلية ولربما العمل على إعادة إنعاش اقتصاده المنهار إلا أن عودته لن تكون كما هو سابق عهده رغم استمرار امتلاكه للمعرفة والتكنولوجيا ولربما القوة العسكرية، فمرحلة ما بعد كورونا هي ستكون مرحلة صعبة على شعوب وحكومات العالم، فاقتصادات العالم متوقفة وبعضها على وشك الإفلاس والحسابات السياسية لبعض رؤساء الدول لن تعقد فحسب من أوضاعها الاقتصادية، وإنما ستربك كل إجراءاتها الصحية، وأن ما يحدث يمثل المرحلة الأولى من خطوات النظام العالمي الجديد الذي لم يتشكل بعد وستمثل الصراعات ولربما الفوضى سمته الرئيسة.. ولن تكون المنطقة العربية بعيدة عن ذلك كثيرا إن لم يكن هي قد بدأت هذه المرحلة بصراعاتها العبثية التي أطاحت بكل بناءات الدولة الوطنية ودمرت بنيان نسيجها الاجتماعي وأضعفت من كياناتها السياسية..

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية