العدد 4216
الخميس 30 أبريل 2020
banner
تعقيب على تعقيب.. لا بديل عن النظام الرأسمالي
الخميس 30 أبريل 2020

في الأسبوع الماضي نُشر على صفحات هذه الجريدة مقال قيِّم للأخ الكاتب والأديب والدبلوماسي الأستاذ تقي البحارنة، كتبه تحت عنوان “أزمة النظام الرأسمالي العالمي”، وذلك تعقيبًا على المقال الذي كنت قد كتبته قبل ذلك بأيام؛ على خلفية تداعيات جائحة كورونا تحت عنوان “ستنتصر البشرية وستعود إلى قاعدة القيم الرزينة” ونُشر في هذه الجريدة أيضًا، وكانت خلاصة مقالي أن العالم سيتمكن دون أدنى شك، إن عاجلًا أو آجلًا، من الانتصار على فيروس كورونا وهزيمته، وستستيقظ البشرية من غفوتها لتدرك الحاجة إلى العودة إلى المفاهيم والقيم والمعايير والممارسات الرزينة، وسيحافظ العالم على النظام الرأسمالي بعد ترويضه وتقليم أظافره ومخالبه وحقنه بالمزيد من القيم الإنسانية.

وقد كان الأستاذ تقي موفقًا في تعقيبه ومصيبًا في طرحه ومحقًا في تشخيصه وتشريحه لبعض جوانب الاعوجاج والانحراف التي عانى منها النظامان الاشتراكي والرأسمالي، وما أدى إليه ذلك من اختلالات واخفاقات.

فبالنسبة للنظام الاشتراكي؛ قال الأستاذ تقي إن “النظام الاشتراكي حالفه الفشل بعد تفكك الاتحاد السوفيتي” أي أن تفكك الاتحاد السوفيتي أدى إلى فشل النظام الاشتراكي، والأصح في رأينا أن فشل النظام الاشتراكي أدى إلى تفكك الاتحاد السوفيتي وليس العكس، فبعد أن فقد السيف الاشتراكي لمعانه وصلابته انفرط العقد وتناثرت حباته وتحول الاتحاد السوفيتي العظيم إلى ركام، وقد كانت روسيا مسقط رأس النظام الاشتراكي فصارت أول مقبرة دُفن فيها، ومات هذا النظام غير مأسوف عليه دون أن تكون له حسنات تذكر، فلم يترحم عليه أحد في أي دولة من الدول التي ذاقت مرارته في الاتحاد المنهار، كما دُفن في الصين التي لم تُبق على النظام الاشتراكي على خلاف ما ذكره الأستاذ تقي؛ بل إنها تخلت عنه قلبًا وقالبًا، وإلا لما تمكنت من تحقيق الإنجازات التي حققتها. إلا أن الصين في الحقيقة أبقت على بعض أدواته ليس من منطلق من تأخذه العزة بالإثم، أو لمجرد حفظ ماء الوجه؛ بل لأن هذه الأدوات أتاحت ووفرت للحزب الواحد الحاكم وسائل القمع والسيطرة والتحكم، فحققت نموًا اقتصاديًا مشهودًا وأبقت الحقوق السياسية والمدنية الفردية مكبلة، وهذا ما قد يفسر انطلاق كورونا من الصين!

نعم، وكما ذكر الأستاذ تقي، فإن كوريا الشمالية ما تزال متمسكة بالنظام الاشتراكي الذي حولها إلى أول نظام “شيوعي وراثي” وواحدة من أفقر بلدان العالم وأكثرها انغلاقا.

وعن النظام الرأسمالي قال الأستاذ تقي محقًا إنه “قد تعالت الأصوات المنذرة من قبل العلماء والدارسين والمختصين والمستشارين، داعية إلى ضرورة تعديل مسار الأنظمة الرأسمالية للاهتمام بالإنسان قبل الآلة، وبرخاء المجتمع في مقابل تكديس الأرباح وبمشروعات التنمية في مقابل إنتاج وتطوير السلاح بأشكاله التقليدية والبيولوجية والذرية، وبضرورة توفير موازنات مالية للدواء والعلاج تحسبا للأزمات، وبالسلام العالمي في مقابل الغزو وتغذية الحروب القطرية وإشاعة الرعب والخوف بين الشعوب المغلوبة على أمرها” مضيفًا بل داعيًا ضمنيًا إلى استبدال النظام الرأسمالي قائلًا “فاليوم تتطلع فيه القلوب والأبصار بعد جائحة كورونا إلى ما يسمى بالنظام العالمي الجديد”.

وفي الحقيقة، إن هذا الاستنتاج لا يختلف كثيرًا عن ما توصلنا اليه وأعدنا التأكيد عليه في مقدمة هذا المقال. وعلى دقته، فإن هذا الاستنتاج غير قابل للتعميم على جميع الدول التي تنتهج النظام الرأسمالي، فهو ينحصر بشكل أساسي في ممارسات الولايات المتحدة في الوقت الراهن بصفتها الدولة الكبرى والقوة العظمى المهيمنة ضمن منظومة الدول الرأسمالية، وبذلك يكون الخلل والداء قد أصاب رأس النظام بشكل أساسي ولا ينعكس بالضرورة على دول كثيرة أخرى تتبنى النظام الرأسمالي كالاتحاد السويسري والدول الاسكندنافية، على سبيل المثال لا الحصر، إذ إن أيدي هذه الدول لم تتلوث بالرذائل التي أصابت الرأس، ولم تتلطخ بدماء الشعوب وعرقها، ولم تضحِّ هذه الدول وكثير مثلها بأي إنسان أو أي فرد من شعوبها، ولم تفرط في رخاء المجتمعات وتطوير مشروعات التنمية ولم تتورط في إنتاج أسلحة الدمار الشامل كالأسلحة البيولوجية والنووية، وهي توفر بسخاء موازنات ضخمة للرعاية الصحية والتعليم لشعوبها.

وفي الوقت نفسه، ودون أدنى شك، علينا أن نُقر بأنه إذا اشتكى الرأس من العطب والخراب، وهي الولايات المتحدة، فإن سائر الجسد يتداعى له بالسهر والحمى؛ إعمالًا للقاعدة الراسخة التي أرساها الرسول الأعظم عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام؛ ولذلك فقد أصبح النظام الرأسمالي يعاني، بدرجات متفاوتة، من الوجع والعوار، وصار يواجه تحديات هائلة من أبرزها عدم المساواة واتساع الفجوة بين الطبقات، كما أدت شراسته إلى طغيان الأنانية وانخفاض جدار القيم واختلال ميزانها؛ فتحول الطموح إلى جشع والمنافسة إلى أطماع، إلا أن أعظم وأكبر أخطائه كانت في تقاعسه عن ضمان اضطلاع الدولة والتزامها الكامل بقضايا ومشاريع الرعاية الاجتماعية والتعليم والعناية الصحية اللازمة والاعتماد في أداء ذلك بشكل أساسي على مؤسسات وأدوات القطاع الخاص.

وأود كذلك الإشارة والإشادة بما ذكره الأستاذ تقي في تعقيبه من أنه “وبعكس الاتحاد السوفيتي، كان لدى النظم الرأسمالية الحرة بعض المرونة في إمكان إصلاح النظام والتطوير مكنها من الاستمرار، لكن في ذات الطريق. وفي الأزمة الاقتصادية سنة 2008 تدخلت الحكومات في حرية السوق، ووضعت يدها على مؤسسات مصرفية ومالية وصناعية، وضخت من الأموال والمساعدات ما مكنها من تجاوز تلك الأزمة”، وهذا صحيح إلا أنني أود أن أضيف بأنه تحت ضغوط الركود العالمي الذي زحف على العالم منطلقًا في البداية من الولايات المتحدة في شهر سبتمبر 2008؛ قامت الحكومة الفدرالية بشراء أسهم كبرى الشركات الأميركية، وفي غضون أشهر، ونتيجة لذلك انحسر الركود وأعادت الشركات الأميركية الأموال إلى الحكومة، وانتعش الاقتصاد الأميركي من جديد وحافظ على صدارته بين اقتصادات العالم.

وعلى الرغم من كل السلبيات؛ فإن الرأسمالية الحقيقية تبقى الأصلح ولا يعيبها الحاجة إلى المراجعة والإصلاح والتجديد وتصحيح المسار وتعديله، وإن ما يغفر للنظام الرأسمالي زلاته وخطاياه تمكنه من البقاء كنظام يحترم ويلتزم بقيم الحرية والديمقراطية التي جعلت منه نظامًا متمسكًا بإمكانية الإصلاح والتطوير، وثمرة نتاج فكري وتطور تاريخي منبثق من قيم العمل واحترام القانون وحقوق الإنسان.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية