العدد 4256
الثلاثاء 09 يونيو 2020
banner
عمود أكاديمي د. باقر النجار
د. باقر النجار
دروس الحالة الأمريكية
الثلاثاء 09 يونيو 2020

يجمع الكثير من الكتاب الغربيين والأمريكيين على أن ما يحدث الآن في الولايات المتحدة الأمريكية إن هو إلا حدث تاريخي لم تمر به أمريكا منذ استقلالها في الربع الأخير من القرن الثامن عشر عن الاستعمار البريطاني حتى الآن. كما يجمع هؤلاء الكتاب أن مصاحبات الحدث ستكون كبيرة على الدولة والمجتمع الأمريكي. وهي مصاحبات لن تأتي غدا أو بعد غد إلا أنها ستشكل جزءا مهما من الحاضر القريب ومستقبل المجتمع الأمريكي...

بعض الكتابات التي تأتي من الغرب والعالم الثالث، وبفعل نزعتها الأيديولوجية تعتقد أن ما يحدث إن هو إلا بداية النهاية للدولة العظمى في الولايات المتحدة الأمريكية. وأن دورة الأفول التي جاءت على الاتحاد السوفيتي، في العقد التاسع من القرن الماضي، هي الآن دائرة على الولايات المتحدة الأمريكية، وبعض هذه الكتابات التي تنتشر وبكثرة في وسائط الاتصال الاجتماعي تعتقد من أن الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب سيكون آخر رؤساء الدولة الأمريكية كما كان غورباتشوف آخر رؤساء الاتحاد السوفيتي. مقابل رأي آخر يعتقد أن الولايات المتحدة وبفعل الحدث الذي أشعلها هي معرضة للتفكك أو أنه قد يقود نحو تفكك بعض ولاياتها الأغنى، إلا أنها لن تُغيب الولايات المتحدة الأمريكية عن الخارطة كدولة وستضعف من حضورها الدولي على الصعيد العسكري والاقتصادي والسياسي. وأن الإنهاك الداخلي للدولة لم يأتي فحسب مما أحدثته جائحة كورونا من أثار اقتصادية وسياسية واجتماعية ولربما ثقافية على الدولة والمجتمع الأمريكي، وإنما عجز الدولة على مدى عقد ونيف عقد الماضيين من القيام بأدوارها الاجتماعية والرعائية قد فاقم من حالة الانقسام الاجتماعي الداخلي الذي أخذ في بعضه بعدا طبقيا وآخر عرقيا وآخر إثنيا. وإن الانفجار الاجتماعي وحركت الاحتجاجات المتصاعدة والمصحوبة أحيانا بالعنف والفوضى، لم يكن وليد اللحظة وإنما عجلت منه جائحة كورونا وأشعله مقتل جورج فوليد، وهي أحداث مع استمرارها تقلص وبشكل كبير فرص الرئيس ترامب من الفوز لأربع سنوات أخرى.

فالانفجارات والفوضى والعصيان المدني ... وغيرها والتي تحدث في كثير من المجتمعات هي ليست وليدة لحظة حدوثها إنما هي تعبير عن تفاعلات قائمة في المجتمع لسنين قد تطول، وهي تعبير عن مشكلات اجتماعية عميقة وممارسات سياسية واجتماعية تركت دون حل أو بعض الحل. وهي قد تحدث نتيجة لحوادث بسيطة قد نستصغرها، وإذا بها تشعل المجتمع ككل وقد تطيح بالدولة والمجتمع أو أحدهما. وقد تتفاعل مع لحظتها متغيرات اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية ولربما تكنولوجية قد تأتي مصاحبة لها ولربما متغيرات مساهمة في تعبئة العامة وشحن الفئة المستهدفة.. فقبل مقتل جورج فلويد كان هناك العديد من الحوادث التي راح ضحيتها عدد من السود الأمريكيين على يد أفراد من البيض أو الشرطة الامريكية إلا أنها لم تشعل المجتمع كما أشعلها حادث مقتل جورج فلويد على يد شرطة ولاية مانيابلس الأمريكية، وجعلها حركة احتجاجية قابلة للاتساع لتشمل كل الولايات الأمريكية، بل إن مواجهتها بالعنف، قد جعل من بعض فلولها المنفلتة مبررا للجنوح للعنف الفوضى، وهو عنف قد يقوض الكثير من إمكانات الجهات المعنية في ضبط أمن الناس والمجتمع..

فالكثير من الدراسات التي جاءت في حديثها عن أفول الولايات المتحدة الأمريكية، ولربما أوروبا، قد تحدثت عن عجز في الأداء الاقتصادي وشعور بتآكل جوهر الهوية نتيجة للخليط السكاني الذي باتت أجهزة الدولة وسياساتها الاجتماعية عاجزة عن صهره، وإذا به يتحول إلى كنتونات اجتماعية متجاورة، إلا أنها غير قابلة للانصهار نتيجة لموانعها العرقية والثقافية ولربما الدينية ولربما كذلك المنافع المتمايزة فيما بينها لأسبابها السابقة: كالتمايز في المنافع القائم على اللون والعرق فيما بين البيض والسود. مما يؤدي إلى تحامل ولربما حقد بعضها على البعض الآخر نتيجة للخوف وغياب العدالة الاجتماعية واللا تساوي في الحقوق والواجبات وعجز القائمين على إدارة الدولة، في السنين الأخيرة عن تحييد نزعاتهم العرقية والإثنية عن المواقع والمراكز التي يحتلونها، فإذا بها تتحول إلى أجهزة مؤكدة لحالة الانقسام الاجتماعي القائم في المجتمع الأمريكي. ولا ننسى تعليقات الرئيس الأمريكي واحتضانه أو عدم انتقاده للجماعات اليمينية المتطرفة، التي منها يستمد بعض الدعم، قد أصبغ إدارات أو بعضا من طواقمها بنزعة شوفينية. بالإضافة إلى انحيازية عرقية خطيرة تتشكل في أطرها بعض مؤسسات الدولة في بعض الولايات، وقد يتمثل بعض ذلك في بعض أجهزة الضبط الاجتماعي، وبالتالي في طرائق سلوكها وفعلها في المجتمع واتجاهاتها الفكرية وأفعالها نحو الجماعات ذات اللون المختلف. ويطرح بعض الخبراء في المجتمع الأمريكي أهمية أحداث قدرا من التغيير في الإطار الفكري والمرجعي الذي يعمل في إطاره هذا القطاع والقائم تقليديا على المدرسة التقليدية من الجريمة والقائلة أن نزعة الإجرام متأصلة في بعض الأفراد والأعراق إلى المدرسة القائمة على فكر السياسات الاجتماعية الداعية إلى إصلاح المجتمع من خلال إصلاح أفراده والتعاطي؛ بغرض الإصلاح مع مشكلاتهم المشكلة لفعل الجريمة.

وإن محاولات بعض قوى الاعتدال والجماعات الليبرالية غير النازعة للعنف في المجتمع الأمريكي ورفعها لشعار “حياة السود تهمنا” هي محاولة لقطاع مؤثر من البيض في المجتمع الأمريكي من جعلها حركة تهم المجتمع ككل وليس قطاع عرقي بعينه. وهي حركة قد تحدث بعض الاصلاح إلا أنه سيبقى محدودا إذا لم تتبن الدولة ذلك في كل سياساتها وأفعالها. فدعم الحزب الديمقراطي الأمريكي لوصول باراك أوباما لرئاسة الدولة كان تحولا مهما في المجتمع الأمريكي إلا أنه بقيت تأثيراته محدودة وعجزت عن إحداث تغيير مهم في توجهات المجتمع نحو السود الأمريكيين. وإذا لم تأت كما يقول توماس فريدمان في مقاله الأخير في جريدة نيويورك تايمز، شخصية ذات ثقل فكري ومتسمة بالعقلانية وذات توجهات كلية كابراهم لنكولن، فإن مقدار التحول سيبقى محدودا، حيث يقول فريدمان: “نحن بحاجة لقيادة حكيمة تهدأ من الوضع الملتهب وتعالج أسبابه الحقيقة العميقة وليست الظاهرة وتأخذنا بسلام نحو انتخابات العام 2020”.

وهي أماني لا يبدو أنها متحققة أو قابلة للتحقق في ظل مجتمع أصبح كما يقول فريدمان متجها نحو شكل من أشكال الحرب الأهلية الثقافية بين الدولة والمجتمع من ناحية وبين البيض والسود من ناحية أخرى. وقد يكون جزءا من عجز الدولة هنا عن أن يكون لها دور مهدئ للحالة المشتعلة هي ليست فقط كما يقول الكثير من الكتاب الأمريكيين نتيجة لطبيعة شخصية رئيس الدولة فحسب وإنما جوهر النزعة التي باتت تأخذها نحو قدرا وقد يكون كبيرا جدا من الشخصنة.

وختاما، فإن التساؤل المطروح في منطقتنا العربية يتمثل في المدى الذي يمكن أن تقدمه الحالة الأمريكية من دروس للعالم العربي. ونعتقد أنه رغم أن تجاربنا في المنطقة العربية جمة وعديدة إلا أن الدروس والعبر المستخلصة منها محدودة أو قريبة من اللا شيء.. وهي حوادث قد أنهكت من قوة المجتمع بسبب مشاكل الفقر والبطالة وانعدام العدالة الاجتماعية والحروب الأهلية وخصام إن لم يكن عداء وقطيعة الدولة والمجتمع، وهي أسباب لم تخرج فيها المنطقة بحلول وعبر.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .