العدد 4289
الأحد 12 يوليو 2020
banner
قهوة الصباح سيد ضياء الموسوي
سيد ضياء الموسوي
احجار متساقطه من عقل اسمنتي
الأحد 12 يوليو 2020

هاتفني وهو يبكي، متهدج صوته كغصن وسط ريح، ترتجف كلماته كعصفور على رصيف، مبحوحة حروفه كشيخ تعب من البكاء وأعباء السفر، في عينيه تتكدس حقائبٌ من ندم، وفي كلماته تنفعل سفنٌ تحمل حمولات تساؤلات. كان منفعلا كنمرٍ، ومقسما كزجاج، ومنهكا من التاريخ وأوجاعه، يتصبب عرق تساؤل، وعينه تغسل تمثال وجع محطمٍ بالأهداب. بيده اليسرى شمعة عمره الذائبةُ من حماقات السياسة، وغباء الزعامات، ومراهقات تجار خطف الأعمار، وبيده اليمنى فسيلة أمل، يجذبه هذا الأمل لزرعها لحياة جديدة. وحدها الصدماتُ قادرة على إزالة الأتربة من على مرآة الوجود؛ لاكتشاف الحقيقة المستلقية إما على شاطئ أو نائمة على رصيف معزول بزقاق مهجور أو تبكي فوق زاوية يتيمة بزنزانة أو متكورة على مصباح شارع عام في منفى.

هكذا رأيت شبح هذا الشاب الثلايني من العمر في الهاتف المرآة، إنه يحكي عن قصة جديدة لم نقرأها في رواية من روايات فيرجينا وولف في الاكتئاب أودوستويفيسكي في مذكرات السجن أو تشارلز ديكنز في الحب المتأخر أو فيكتور هيجو في البؤساء. راح الشاب يقص عليَّ قصاصه العاطفي بسخاء، يحكي لي تجربته ولساعة متواصلة في سرد قصصي متناسق تخرج منه فراشات زرقاء للأمل، وضباع متوحشة في النقد لآخر حجرة سقطت - مما أسماه هو- بالعقل (الإسمنتي)، وما خرج من العقل من أتربة السياسة، أفكار تعلوها أتربة تبحث في الحياة عن وشاح عروس وتنفض الغبار عن قصص ودروس لوجع مثقوب. - قال لي: كشاب بحريني أنا كنت من المتفوقين دراسيا، وكان طموحي أن اصبح طبيبا، وأرتدي البالطو ذا اللون الأبيض، فاللون الأبيض يمكن أن ترى عليه بوضوح إن كان متسخا بأشياء يمكن أن تؤدي إلى عدوى أو مرض، بالإضافة اللون الأبيض مرتبط بالعلوم الطبية، ويشير إلى النقاء والصفاء. لم أكن أعلم أن الاستغلال السياسي سيقودني لبزة سجن. ياسيد، فهمت الدين حبا ووطنا وعلما وأناقة ورياضة وموسيقى وتمتع بطبيعة وسفر اكتشاف العالم، ووسطية في الدين وحب للأديان الأخرى. تعلمت ألا أرفع شعارا يسيء إلى وطني، وأقف مع شعار يدعم وطني وقيادتي، وألا أسلم عقلي لا لرجل دين، ولا سياسة وأن أومن بـ ((إله الحب والجمال والإنسان)). لقد سقط في عيني تمثال رجل الدين السياسي، وخطابات السياسيين. خطاباتهم إنشائية، وقراراتهم كرمية (نرد) على ظهورنا، قراراتهم ليست في يدهم. ياسيد، لا ولاية إلا ولاية الوطن ولا قانون إلا قانون الوطن، وليس لأحد ولاية علينا إلا القيادة. فهمنا الدرس، فبعد أن ذهبنا ضحايا حماقات الشعارات، الآن كلهم تجمعوا ليقفوا ضد من تبقى في السجن، ضد قانون العقوبات، ووقفوا ضد بصيص الأمل، لهذا القانون الرحيم.

بعد المآسي، الجميع هنا كفر بهم وبشعاراتهم. فهمت بعد تجربة السجن، وخروجي عبر قانون العقوبات البديلة ألا أخزن عقلي في ثلاجات رجال الدين السياسيين، ولا رجالات السياسة، فهم يستخدمونها في الباربكيو السياسي متى ما توحموا على أكل عقولنا مشوية ويخزنونها ما اقتضت الحاجة إلى ذلك. اين أنتم من الأخماس المكدسة؟ انظر إلى السيد فضل الله خدم لبنان بالخمس للفقراء ومشاريع مستشفيات للوطن، وهنا لم يبنوا مقصف سندويش وتقام الدنيا على تصفيق في مأتم أو تسريحة شاب!!!! هم يعيشون متنعمون في الخارج مع أبنائهم، ويتاجرون بنا ويرفضون خروجنا!!!؟؟؟. داخل السجن وخارجه، هناك ثقافة آخذة في الانتشار، ولك أن تسأل عن ذلك (لا لثقافة الموت، نعم لثقافة الحياة)، (لا لرجال الدين والاحزاب، نعم للفكر الحر بلا أذناب)، قلت له بالمناسبة وصلني اتصالان من داخل السجن لجنائي وآخر لغير جنائي، وقالا لي: وصل صوتنا.. شكرا للدولة على التسهيلات، ونتمنى أكثر وأكثر، حيث إن الوجبات منظمة، ونعلب رياضة، وتصلنا كتب ومجلات، وصحف، ونستطيع الاتصال هاتفيا بشكل مستمر، ونرفض أولئك من يزايدون في الخارج ويتاجرون بهذا الملف، ونحن نقدم الشكر الكبير لجلالة الملك على قانون العقوبات البديلة، فكثير من الذين خرجوا من الجنائيين وغير الجنائيين بحرينيين وأجانب، مصابون بأمراض مستعصية، فهل من الإنسانية والرحمة أن يقف رجال دين أو سياسون ضد قانون يزرع الأمل لمرضى منهم كبار سن وأطفال؟ هل الدين يقول ذلك؟ هل هذه هي الرحمة التي صدعوا رؤسنا بها لسنين؟ أنا ياسيد، الآن أعد نفسي لاستكمال دراستي، وأصبحت اقرأ في النقد لعدة كتاب متنوعين، وروايات عالمية بعيدا عن السياسة ورجال الدين. أصلي، أقرأ القرآن بعيدا عن كل هؤلاء وأشعر أني أقرب إلى الله والحياة.

ختاما قلت له: الدين باختصار صل، صم، أخلاق. أما هذه المبالغات، فهي هوس ووسواس. انصح الشباب، اقرأوا كتبا ثقافية متنوعه، كونوا أحرارا في التفكير، لا تصنعوا تماثيل لأي بشر، لا تتعصبوا لأحد ولا لدين، لا تهرولوا وراء أي شعار سياسي قد يقضي على زهرة عمركم، احذروا من الشعارات والعواطف، عيشوا الحياة، تأنقوا، العبوا رياضة، فكروا في مشروع تجاري لصالحكم، ولصالح الوطن، السعادة في الاعتدال، تعصبوا في حب الوطن، الحياة جميلة و((على هذه الأرض ما يستحق الحياة)).

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية