العدد 4301
الجمعة 24 يوليو 2020
banner
“وفيك انطوى العالم الأكبر”
الجمعة 24 يوليو 2020

إنها الدمية الروسية "ماتريوشكا"، والتي هي عبارة عن عدة دمى بأحجام متناقصة، مشابهة ولكنها ليست مطابقة للدمية الأكبر الحاوية لها، وهي أقرب تجسيد لمفهوم القانون الكوني، المعني بالتكرار النسبي لأشكال الحياة من الأصغر إلى الأكبر. ذلك القانون مشفّر في الحقل المعلوماتي اللامرئي قبل الانفجار العظيم الذي حدث قبل 15 بليون عام، والذي تكثفت وتجسّدت المواد المنبعثة من الانفجار العظيم بناء عليه، ابتداء من أول وأصغر شكل للحياة الذي لا يتعدى خلية بكتيرية أولية بدائيّة تكوّنت منذ ما يقارب النصف بليون عام، وحيث إن تلك الخليّة البكتيرية مشفّرة بنفس القانون الكوني لانسيابية التطوّر بالتكرار النسبي كما هي دمية ماتريوشكا، فإنّ هناك قوة دافعة في الخلايا البكتيرية جعلتها تتلاصق لتكوّن نسيجا مجتمعيا لرفع مستوى الوعي الجسدي والذي هو معني بالبقاء، حيث تكون بهذا المجتمع البكتيري معادلة لضغط الظروف البيئية المحيطة التي أدت في السابق إلى انفجار الخلايا البكتيرية السالفة.

ومن النسيج البكتيري استمر التطوّر لأشكال الكائنات الحية، التي تنطوي جميعها على قانون الدمية ماتريوشكا، لكن هذا التطوّر هو في جميع الاتجاهات، لذا فإن الخلايا البكتيرية مازالت موجودة ولكن بشكل متكيّف مع الظروف المناخية والبيئية المحيطة لضمان بقائها، وقانون ماتريوشكا لا يقف عند التكرار النسبي للكائنات، بل في تطوّر الكائن بحد ذاته، وبهذا يكون الجنين البشري أرقى مثال على ذلك التكرار المتدرّج المنطوي على العالم الأكبر المحيط بالأم، حيث يبدأ من خلية مخصبة، ثم تتطوّر لتتخذ شكل جنين السمكة، وبعدها جنين البرمائي، ومن ثم جنين الزواحف حيث ينتهي بجنين الثدييات إلى الإنسان، وهكذا تتجلى صور التطوّر من الماء إلى اليابسة في تطوّر جنين الإنسان.

لكن إلى أين نتجه بعدما حققت القوة الكونية الدافعة للتطور ما نحن عليه كأرقى المخلوقات؟ وبمعنى آخر، أين نحن الآن من سلم الوعي الذي بدأ بالوعي الجسدي لبقاء البكتيريا وغيرها من مخلوقات حية؟

في حقيقة الأمر نحن في هذه المرحلة نتوق إلى تكوين المجتمع الإنساني المتكامل، أي الإنسانية، ذلك التوق هو أيضا قوة متعادلة كونية دافعة للتطوّر، حيث لها عاملان كامنان في كل منا، حيث ينتظر العاملان قرار تفعيل التطوّر بعزيمة حقيقية، بعد ما شهدناه من معاناة وهلاك من فارقونا من أحبة، وبعد ما عاصرنا من حروب ودمار. العامل الأول هو تفعيل شفرة البناء الكامنة في قلب كل منّا والتي هي القيمة العليا التي تحقق التوازن الذاتي بشغف التحدي وروعة الإنجاز، والعامل الثاني هو تفعيل روابط عصبية جديدة في الدماغ لتطوير العقل الجديد الموجّه نحو مستقبل التكامل الإنساني، كلّ في ملعب إبداعه، فالإنسان قد كرّم بالعقل الواعي الذي يرتكز على هدف، والهدف ينبع من القيمة العليا، وبالتركيز على الهدف تحدث نقلة نوعية في البارادايم أو المخزون العقلي، والمخزون العقلي هو أفكار تم تحميلها أو عقلها منذ التنشئة بتفعيل روابط دماغية، وتغيير تلك الروابط ليس أمرا مستحيلا بعدما اتضحت رؤية الهدف، لأن الدماغ الإنساني مؤهّل لإحداث التغيير في التشابك والروابط العصبية متى ما كان هناك وعي بضرورة ذلك التغيير لأجل التطور الذاتي في المقام الأول، ومن ثم التكامل الإنساني المجتمعي، أي الإنسانية. فالإنسانية معنيّة بالسلام الذاتي أولا ثم مع الآخرين وباقي المخلوقات المفطورة على البقاء من حيوان ونبات.

إن الإدراك الواعي لما تمثّل الدمية ماتريوشكا من تجسيد علمي أصبح واضحا للعيان، وهو ينطوي على القانون الكوني الذي ورد في القول الشهير للخليفة الرابع علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه "دواؤك فيك وما تُبصر، وداؤك منك وما تَشعر، وتزعم أنك جرمٌ صغير، وفيك انطوى العالمُ الأكبرُ"، والذي فيه رفع وعي لما ينطوي في بنيتنا اللامرئية من اتجاه نحو التطوّر، بالشفاء من ألم النفس والمحيط بما في داخل النفس، عن طريق إطلاق قانون العالم الأكبر الكامن في النفس نحو التطوّر وتجسيد جمال الإبداع والازدهار والسلام لتكوين الإنسانية البنّاءة، والتي هي للحياة وليست للبقاء كما في البكتيريا الأولية، دعوة للتأمّل في الذات.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية