العدد 4326
الثلاثاء 18 أغسطس 2020
banner
قهوة الصباح سيد ضياء الموسوي
سيد ضياء الموسوي
الافريقي الذي حوّل البندقية إلى مزهرية
الثلاثاء 18 أغسطس 2020

التنمية لا تحتاج إلى بلورة سحرية لاصطياد اقتصاد يزيد من ذهب الأغنياء، ويرفع أيضا الفقراء بطوق نجاة من غرق بحر الفقر ولا إلى بساط سحري ليطير بالواقع السياسي إلى حيث جنة مثالية على طريقة أفلاطون التي تتنور بالفلاسفة أو إلى مصباح علاء الدين لصناعة وحدة وطنية متماسكة؛ لا يحتاج إلى سحر، فقط إرادة وتخطيط وقانون واستراتيجية وحكمة، وعدم النوم على سرير الماضي، وعدم تحويل الجراح إلى أضرحة قداس تلقى عليها القرابين وإلى محاربة أي تجاوزات مالية.


أعرف تعقيدات السياسة، ولست درويشًا في تحليلي للتوازنات السياسية، ولا أؤمن بقراءة الواقع السياسي بطريقة إنشائية كخطاب يلقى في كنيسة. كل بلد أوربي سافرت إليه رحت أفتش في صندوق تاريخه، وأنكش مناطقه ومقابره وشخصياته من دكتاتوريين وفلاسفة وفنانين ومذابح جماعية من مذبحة البوسنة إلى المقابر الجماعية للدكتاتور فرانثيسكو فرانكو الذي حكم اسبانيا بالنار إلى حديقة الانتحار في اليابان إلى منزل الموسيقار موزارت في النمسا إلى مقبرة العظماء بباريس إلى استوديوهات هولييود (Hollywood )في لوس انجلوس.


كل بلد أزوره أحاول اصطياد الحكمة منه بالقناص الذي يجلس برأسي وعقلي وقلبي. أقول كنت أمارس التنقيب المعرفي لأصنع بداخلي تمثال حرية حقيقيًّا غير مزور لأحد، يقوم على الواقعية بعيدا عن أحلام الإسلام السياسي وفانتازيا كل الحركات الأممية، وبعيدًا حتى عن النظريات الكبيرة لعظماء التاريخي؛ لإيماني بأن الحكمة غير منتهية حيث يقول الله عز وجل ((وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)). كل ذلك لأمتلك ولو جزءا من الواقعية في قراءة الحياة (وما زلت في الصفحة الأولى) كما يقول نزار قباني عشرون عاما فوق درب الهوى ولا يزال الدرب مجهولا.


عشرون عاما يا كتاب الهوى ولم أزل في الصفحة الأولى. ما يحدث في العالم العربي من لبنان والعراق واليمن وسوريا، بل أغلب العالم الإسلامي يحتاج إلى إرادة داخلية قبل هيمنة أنبياء المال العالميين وأباطرة العولمة وتجار الرأسمالية ذات البعد المتوحش لا الجميل، لأن كل نظرية قد تحمل جمالا وإن غلب عليها الافتراس. هل وضع لبنان أو العراق أكثر صعوبة من رواندا؟ هل جمهورية رواندا، هذا البلد القادم اليوم بجناحي التنمية المجتمعية والاقتصادية كان يسير على حقل من الزهور؟

بلد افريقي صغير متآكل !! شعب جائع عارٍ بلا لباس، يشرب من المستنقعات كما كانت سنغافورة قبل العظيم المصلح (لي كوان يو). شعب افريقي متقاتل بين طائفتين من ذات الديانة الواحدة المسيحية، كان خبزهم حافيا وجوعهم حافيا، ودموعهم أكثر من نقودهم، بقدر المنابر كانت المقابر من خطب التحريض التاريخي بين الطوائف، بلد يسير بلا حذاء على تاريخ، شوارعه ممتلئة بالزجاج المنثور. أكثر من 800 ألف قتيل في تسعين يوما من حرب أهلية بين قبيلة الهوتو والتوتسي. بين مسيحي ومسيحي، يستخدمهم السياسيون خلف مسرح ستائره مصنوعة من جلود الأطفال وخشبه من نعوشهم. الحرب الأهلية الرواندية (1990 - 1993) أو ما يعرف بالحرب القبلية بين التوتسي والهوتو. يخزن الشعب رصاصا في المنازل أكثر من حبات الرز. يرضع الأطفال من حليب الطائفية وهم صغار. كلا الكنيستين من رجال الدين من كاثوليك وبروتستانت، كل في كنيسته يحرض على أبناء الطرف الاخر، وكل يحتكر المسيح ومريم العذراء ويحتكر الجنة ويسجلها في سجله العقاري الخاص به. والناس بنظام البرمجة والتشفير يتحولون إلى كنيسة شرطة عقيدة، والسياسيون يتقاتلون على الكراسي إلى أن حدثت المعجزة والتي سأتحدث عنها لاحقا كيف تحولت رواندا من رائحة الدم إلى عطر يُشم، ومن بلد الحرائق إلى بلد ترقص فيه الحدائق، وكيف تحولت المرأة من مطبخ الطعام إلى مطبخ النظام وماذا فعل القائد المصلح الذي وإن وصفوه بالشديد، (بول كاغامه) Paul Kagame والذي استطاع بعقله النير تحويل الرصاص في كل مقتل وحملة إلى فضة في خزانة الدولة.


رجل حوّل البنادق إلى فنادق والبندقية في يد أطفال المليشيات إلى مزهرية في المدرسة ومعارض الديكورات.


رجل قفز على الجراح، والماضي وزاوج بين الطوائف وأشتغل على إزالة كل فتائل القنابل ليحولها إلى سنابل. فرض اللغة الانجليزية، فتح الاقتصاد، حارب الفساد، وأخرج العدالة من الرماد، فرض مواد في تدريس المدارس عن خطورة الحروب والطائفية والقتل الجماعي، وأوصل النت لكل القرى. لازال ثمة أمل عندنا في العالم الإسلامي مهما حدث في سوريا ولبنان وغيرهما لصناعة عالم جميل مع وجود الإرادة وتكاتف الجميع والثقافة التي تنجو بنفسها من الصندوق.. يتبع.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .