العدد 4335
الخميس 27 أغسطس 2020
banner
العقل الشفائي
الخميس 27 أغسطس 2020

يختلف كثيرون في المعنى الحقيقي للشفاء، فالشفاء بحد ذاته ليس معنيا بالجسد، لأن حالة الجسد الصحية ما هي إلا انعكاس لمدى اتزان النفس البشرية، كما أنها مقياس لحياة الإنسان المفعّلة بالحركة والنشاط والإلهام من الداخل وليس بعوامل محفزة من الخارج، وبهذا يكون العلاج هو المعني بالجسد الذي به نسيطر على أعراض الأمراض المزمنة مدى الحياة، كأن نحافظ على المستوى الطبيعي للسكر في الدم في داء السكري دون أن نتعامل ونعادل السبب الذي أدى إلى نشوء داء السكري، وليس هناك استغناء عن العلاج الجسدي ولكن يجب أن يكون متكاملا مع الشفاء الذي يتناول الروح والعقل، وتلك توليفة الصحة التكاملية لكي يحيا الفرد في سعادة وصحة مستدامة.

وفي حقيقة الأمر إن ما يحرك جسد الإنسان هو العقل، تلك الحركة تشمل الحركة الإرادية لعضلات الرجلين واليدين، وكذلك الحركة اللاإرادية باستثارة أعضاء الجسم المنقبضة والمنبسطة كالقلب والرئة والأمعاء فوق معدلها الطبيعي، وكذلك بالتأثير على عمل باقي أعضاء الجسم كالكبد ومناعة خلايا الدم البيضاء والبنكرياس. ولتوضيح ذلك الأمر العميق والمؤثر على حياة البشر دون إدراك، فإنّ العقل الذي هو وعاء الأفكار المرتبطة بمشاعر مؤلمة قد برمجت بشكل أوّلي وأساسي في الست سنين الأولى من عمر كل إنسان، حيث تلعب تلك البرمجة الدور الأكبر في وعينا لما نستقبل في حياتنا من مواقف وأحداث وأشخاص، فتتراكم أفكار جديدة بمشاعرها وفق تلك البرمجة الأولية، والمعني هنا هي تلك الأفكار الغالبة علينا وما يلازمها من مشاعر سلبية تعيق نموّنا وتطوّرنا، ولأن الجسد لا يستطيع أن يعيش في الاستنفار المترافق مع الألم وأن يحيا في النمو والبناء في نفس الوقت، فإنه يعيش في البرمجة الغالبة التي تشكّل 95 % من العقل، أي العقل اللاوعي، بافتراض أن 95 % ألم ومعاناة.

فعلى سبيل المثال عيش دور الضحية وتصغير الذات، إنما هو شعور سلبي قد يعيش فيه الفرد دون أن يعي له! ذلك عن طريق استقباله أغلب مواقف حياته كالعلاقات والعمل والمعاملات الحياتية، ذلك أنّ تلك الفكرة أصبحت رابطا عصبيا في الدماغ قد برمج عليها منذ الصغر، وما يترافق معها من ذلك الشعور المؤلم قد اختزن في اللوزة الدماغية في الدماغ، وقد أصبحت سلوكا جسديا منكسرا منذ ذلك الوقت... وكذلك فإنّ ذلك الفرد لا يعي مدى خطورة ذلك الشعور الذي قد يؤدّي إلى أمراض الأمعاء الغليظة مثلا، لأنّ ذلك الشعور له طاقة موجية بتردّد معيّن (عدد الموجات في الثانية الواحدة) مؤثرة على منطقة الأمعاء، والذي يكون مع إفراز مواد كيميائية أو هرمونات تؤثر على حيوية الأمعاء وتجدد خلاياها وحركتها اللاإرادية كما وضحنا أعلاه، مما يؤدّي إلى العلة. هنا يتضح أن الإنسان ليس فقط مخوّلا بحركته الإرادية، لكنه أيضا مسؤول عن حركة أعضاء جسمه اللاإرادية، عن طريق إدارة العقل، وفي هذا إمّا أن يكون العقل مبرمجا بالأفكار والمشاعر المثيرة للاستنفار الباعثة على الإدمان المادي بإفراز الدوبامين المحفّز لما يشعر باللذة الحسيّة المؤقتة كالمسكّرات، أو يكون العقل شفائيا.

العقل الشفائي هو مصطلح أطلقناه على العقل الموجّه نحو تفعيل القيمة العليا الضمنيّة، التي وجدنا لأدائها وتحقيقها على الأرض، والعقل الشافي هو تلك القوة المحرّكة التي تحوّل خيالنا الشخصي إلى واقع مادي ملموس، عن طريق خارطة طريق ذاتيّة تفعّل خلاص أرواحنا من سجن العقل المبرمج، وتعيد اتزان أجسادنا لشفائها من العلل والآلام، ذلك العقل موجّه نحو الإلهام في القيمة العليا التاركة للأثر الصالح للأجيال القادمة. نحن الآن في عصر راق يجمع بين ما هو أعمق من مادة الجسم المجزّئة، أي الطاقة المحرّكة للجسم وما يوجّه تلك الحركة، أي العقل، فلنجعل ذلك العقل موجّها نحو ما نحب أن نتحرّك به وإليه، نحو رسالتنا المفعّلة للوعي الروحي وليس المادّي الذي ينحصر في دائرة الألم واللذة على التوالي. إن العدل الإلهي أوجد في كل منا بوصلة روحية تكمن برسالتنا ودورنا والعقل الشافي إنما هو القوة الموجهة نحو هذا الدور بعيدا عن المشتتات حتّى نسمو بالعطاء الفعلي وترتقي مشاعرنا إلى الحب الواعي والسلام واستشعار النعيم أي الخلاص، دعوة إلى التأمل في الذات.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية