العدد 4339
الإثنين 31 أغسطس 2020
banner
الدول الخليجية وإسرائيل.. قواعد جديدة للاشتباك
الإثنين 31 أغسطس 2020

تسلمتُ الكثير من الرسائل والاتصالات من عدد من الأصدقاء والقراء والمتابعين بعد أن نشرت مقالي الأسبوع الماضي بعنوان “الإمارات وإسرائيل.. الفلسطينيون ومشاريع الحل السلمي والتطبيع”، أكثرها كانت تشيد وتتفق مع الآراء التي طرحتها، وبعضها كانت تتضمن آراء ووجهات نظر مخالفة.

ومن منطلق التقدير والاحترام والاهتمام بالرأي المختلف، وعلى قاعدة “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب” التي أرساها الإمام الشافعي، فقد رأيت أن أخاطب المختلفين معي في هذه الوقفة بالإجابة والتعليق باختصار شديد، لضيق المساحة، على بعض التساؤلات والملاحظات التي أبدوها.

أعزائي، بعد أن اتضحت لكم المواقف الثابتة التي أعلنتها وأكدتها مؤخرًا كل من المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين، وتمسكهما بحل الدولتين على أساس المبادرة العربية وعلى أساس دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، هل اقتنعتم الآن بأنكم قد تسرعتم، كالعادة، في توجيه اتهامات الخيانة والغدر والطعن في ظهر القضية الفلسطينية وبيعها، وأنه لم تكن ثمة مؤامرة، كما ذكرتم، بين عدد من دول مجلس التعاون بحيث تطرح الإمارات مبادرتها أولًا ثم تتبعها بعد أيام المملكة السعودية والبحرين وعمان بما يؤدي إلى انفراط عقد الدعم الخليجي للقضية الفلسطينية؟

إنكم لم تكونوا صائبين وموفقين أيضًا عندما ذكرتم أن الهدف الرئيس لمبادرة الشيخ محمد بن زايد هو دعم الموقف الانتخابي للرئيس ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية في شهر نوفمبر المقبل؛ فالناخب الأميركي لا فرق عنده سواء اعترف كل العرب بإسرائيل أم لم يعترفوا، ولا يهتم ولا يكترث كثيرًا بالسياسة الخارجية لحكومته إلا في حال وقوع حرب وسقوط قتلى أميركان خارج الحدود الأميركية، الناخب الأميركي تهمه في الأساس الأمور والمشاغل والشؤون والشجون الداخلية مثل قضايا النمو الاقتصادي وتوافر فرص العمل والضرائب والأسعار وقضايا الإجهاض وحقوق المثليين وما شابه، إذًا السياسة الخارجية للرئيس ترامب ودعمه لإسرائيل لن يكون لها دور مؤثر للغاية في إعادة انتخابه، والدليل أن الرئيس جيمي كارتر هُزم بفارق شاسع أمام المرشح الجمهوري رونالد ريغن في انتخابات 1981 بالرغم من أنه كان المهندس والمشرف على توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين الرئيس المصري أنور السادات ورئيس وزراء إسرائيل مناحيم بيغن في العام 1978، والتي تعد أكبر إنجاز سياسي ودبلوماسي حققته إسرائيل بفضل مساندة وجهود كارتر، إضافة إلى أن اليهود في أميركا لهم دون شك نفوذ قوي، لكنهم لا يشكلون أكثر من 2 % من الناخبين وأكثرهم مناصرين للحزب الديمقراطي المنافس لترامب.

وليس صحيحًا ما ذكرتم من أن الإمارات تسعى لتحقيق منافع ومكاسب اقتصادية على حساب القضية الفلسطينية، فالإمارات ودول مجلس التعاون الأخرى دول غنية، لديها فوائض مالية ولا تحتاج إلى منافع اقتصادية أو مساعدات من إسرائيل أو غيرها، وهي على كل حال تدرك أن إسرائيل ليست قادرة أو معروفة بعطائها وسخائها؛ فهي تأخذ ولا تعطي، والسوق الإسرائيلية ليست جاذبة أو مغرية، وهي صغيرة في حجمها، فعدد سكان إسرائيل كلها يبلغ 9 ملايين نسمة، أقل من عدد سكان الصومال، وأقل من نصف عدد سكان مدينة مومباي الهندية أو كراتشي الباكستانية، وأقل من سكان القاهرة، والشعب الإسرائيلي منتج يتجه إلى التصدير وليس الاستيراد، والسائح الإسرائيلي مُقَتّر للغاية في إنفاقه، كما أن تجربة مصر والأردن في مجال التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي والسياحي مع إسرائيل ليست مشجعة.

وأرجو منكم التأكد مما ذكرتموه من أن “الشعب الخليجي برمته يقف بقوة ضد التطبيع”، إن هذا الشعب كان وما يزال وسيظل متوجعا لآلام ومعاناة أشقائه الفلسطينيين، ومتعاطفا مع قضيتهم العادلة، إلا أن الغالبية العظمى منه لم يعودوا متعلقين بها كما كانوا من قبل.

إن المشهد الحقيقي للرأي العام الخليجي بالنسبة للقضية الفلسطينية اليوم هو كالتالي: إن أكثر من 90 % من مواطني دول المجلس ولدوا بعد نكبة 48، وإن الفئة العمرية من 14 سنة فأقل تشكل نسبة عالية جدًا مقارنة بالمجتمعات الأخرى إذ تبلغ 34 % من المواطنين وهم لا يفقهون، بحكم سنهم، لهذه القضية أو غيرها، وإن نسبة عالية أيضًا من المواطنين الخليجيين تبلغ حوالي 30 % من فئة الشباب من 15 حتى 29 سنة لا يهتمون ولا يريدون أن يعرفوا شيئا عنها وليس لهم أي ارتباط عاطفي بها، أو الغالبية العظمى من هذه الفئة على أقل تقدير.

فمن بقي؟ بقيت الفئة العمرية التي أنا وأنتم ننتمي إليها، أو جيل النكبة الذي رضع القناعة والإيمان بعدالة القضية الفلسطينية منذ طفولته ونعومة أظافره، فلكَم هزتنا نداءات عبدالناصر، ولكم شدتنا هتافات أحمد سعيد (غالبية الخليجيين الآن لم يسمعوا باسمه)، ولكم شاركنا في تظاهرات ورفعنا أصواتنا مطالبين بعودة كامل الأراضي الفلسطينية، وطرد الصهاينة منها وإلقائهم في البحر.

وظلت العاطفة والأحلام تقودنا وتتقاذفنا وتجرفنا إلى أن استيقظنا وأفقنا، أو استيقظ وأفاق الكثير منا على أقل تقدير أيضًا، عندما رأينا بأم أعيننا، وكبرياؤنا يتحطم والآلام تعصرنا، كيف كانت جيوشنا العربية تمنى بالهزائم المنكرة المرة تلو الأخرى على أيدي الإسرائيليين، ووجدنا في النهاية أن القضية العادلة أصبحت شماعة أو بضاعة يتاجر بها المزايدون وسماسرة الشعارات، وباسمها وعلى حساب مصلحة أهلها تقع الانقلابات وترتكب أعمال التطرف والعنف والإرهاب، وتنتهك الحرمات والحقوق والحريات، وحوّلها البعض إلى أداة للابتزاز ، بما في ذلك ابتزاز دول الخليج، ورأينا قادة الفلسطينيين وهم يختلفون وينقسمون ويتناحرون بشأنها، وينغمسون في أوحال الفساد، فأضعفوا من قوة وقداسة وصلابة قضيتهم، ثم إنهم هدموا حاجز القطيعة وجدار المقاطعة عندما اعترفوا بإسرائيل ووقعوا اتفاقات الصلح والسلام معها، في الوقت الذي كانوا فيه وما زالوا يخطئون ويخونون من يعمل الشيء ذاته، فهل ما زلتم أعزائي تسألون عن سبب صمت وسكوت الشعوب الخليجية على قرار الإمارات بتطبيع علاقاتها بإسرائيل؟ مع أنكم لا شك سمعتم بالمثل القائل “السكوت من الرضا وعدم الاعتراض يعد قبولًا”، ومع أنكم تعرفون أيضًا أن هناك شريحة واسعة في المجتمع الخليجي لها صوت مسموع، نعتز ونفخر بها، ما تزال مصرة على التشبث بالأمل والتمسك بقناعاتها بعودة فلسطين من البحر إلى النهر.

لكنني لا أظن أنكم مخطئون عندما اتهمتم الدول الخليجية وقلتم إن القضية الفلسطينية لم تعد على قمة أولوياتها، وإن قال لكم أحد خلاف ذلك فهو مجامل يحاول أن يخفي الحقيقة عنكم، فقد تغير بالفعل موقع القضية الفلسطينية على سلم الأولويات بالنسبة لهذه الدول بعد أن تغيرت خارطة الأشقاء الأعداء والأصدقاء والحلفاء في المنطقة منذ غزو الشقيق العراقي للكويت ووقوف بعض الأنظمة والمنظمات العربية معه، وصولًا إلى تمدد وزحف دول نشاركها المعتقد والجوار والتاريخ بأطماعها التوسعية إلى أحضاننا، فرأت الدول الخليجية أن إسرائيل ليست الدولة التي تسيطر على ٤ عواصم عربية، وليست الدولة التي لها جنود وميليشيات يحاربون في ليبيا والعراق وسوريا، وليس لإسرائيل قواعد في أي من الدول العربية، كل هذه التطورات أخلت بموازين العلاقات ومواقع الأولويات.

لكن كل ذلك لا يعني أن دول الخليج ستتخلى عن مبادئها، وتتنكر لعدالة قضية الأشقاء الفلسطينيين وتتنصل عن مسؤولياتها تجاههم، فالسلام والحوار مع إسرائيل لا يسقطان الحقوق؛ إن الأمر لا يعدو كونه مجرد استنهاض لقواعد جديدة للاشتباك تتطلب العمل بالمكشوف وتحت ضوء الواقع بدلًا من تحت الطاولة وفي الظلام.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية