العدد 4372
السبت 03 أكتوبر 2020
banner
الحاكم الحكيم... وداعاً
السبت 03 أكتوبر 2020

كتبت النقاط العريضة لهذه السطور بعد سويعات من الخبر الفاجع بوفاة المرحوم بإذن الله تعالى سمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح أمير دولة الكويت الشقيقة؛ ففي ضحى ذلك اليوم كنت أتجاذب الحديث مع ابني هيثم في مواضيع شتى أنهيتها بإبداء قلقي على حياة الكبير الراحل بعد أن طالت مدة مكوثه في المستشفى خارج البلاد، وما هي إلا سويعات قليلة حتى صدمني الخبر المشؤوم عصراً.

في تاريخ وطننا العربي الحديث؛ وهو تاريخ أغلب فتراته مضطربة؛ هناك حكام قلائل وهبهم الله الحكمة والحلم، وكلتاهما صفتان من مستلزمات الحكم الرشيد، لكن خبراتهم التي جبلوا عليها منذ نشأتهم ساهمت بلا شك في تدعيم تلك الخصلتين بما اكتسبوه من خبرات ثقافية ودينية وسياسية صقلت تلك الموهبة في الحلم والحكمة، سواء عند توليهم أي منصب في جهاز الإدارة العامة، أو لدى تسلمهم مقاليد الحكم. وأحسب أن الأمير الراحل فقيد الكويت وخليجنا العربي وأمتنا العربية جمعاء؛ هو واحد من أولئك الحكام العرب القلائل في تميزه بتلك المأثرتين، ولا ريب بأن توليه منصب وزير خارجية بلاده طوال 40 سنة انتهج خلالها ما يُعرف بـ "الدبلوماسية الهادئة" كان له دور مهم في تنضيج تلك الخبرات التي اكتسبها عند توليه الحكم مطلع عام 2006، حيث حظي بتصويت البرلمان عليه بالإجماع. وصفته قناة فرانس بمهنيته المحايدة بحد أدنى معقول وبأنه "حكيم العرب" و"مهندس" سياستها الخارجية و"عميد الدبلوماسية" التي - والكلام مازال للقناة - أبعدت بلاده عن الكثير من النزاعات والتوترات الإقليمية.

ونكتفي هنا بالإشارة إلى موقفين مهمين تاريخياً من المواقف التي تُحسب للراحل الكبير في إرساء دعائم السلام في المنطقة من خلال نهج "الدبلوماسية الهادئة" التي تتبناها بلاده عبر قيامه بالوساطات لفض المنازعات: الأول، وساطته بين جمهوريتي شطر اليمن الشمالي وشطر اليمن اليساري خلال الحرب بينهما عام 1972؛ والثاني: دوره الصعب في الوساطة للتهدئة بين الشطر الأخير اليساري الماركسي نفسه وبين الشقيقة سلطنة عُمان في عهد سلطانها الراحل المعروف بالحكمة أيضا السلطان قابوس. أما على الصعيد القومي فقد كانت الكويت دائماً من المبادرين في لم الشمل العربي والوساطات لحل ما قد يطرأ بين أشقائها العرب من خلافات حيثما أمكن لها بذل أقصى الجهود الممكنة، كما كان لها شرف تقديم المساعدات المالية والعسكرية خلال حرب أكتوبر المجيدة 1973، وقد فصّلت ذلك في مقال لي نُشر في الصيف الماضي بمجلة "العربي" الكويتية بمناسبة الذكرى الستين لها.

أما على صعيد علاقتنا الثنائية بالشقيقة الكويت فنحن مدينون لها - قيادة وشعباً - بدعمها السخي لنا في شتى المجالات، خصوصا في القطاعين التعليمي والصحي بما أسهمت به من مراكز صحية على نفقتها وكذلك من مدارس نموذجية ومنح دراسية منذ إنشاء جامعتها 1966 وغيرها من المنح والمساعدات الأخرى في قطاعات مختلفة، ولا ننسى أيضاً امتنانها لنا الكريم عندما حل جمع من آلاف أبنائها ضيوفاً على البحرين طوال محنة الغزو العراقي لها 1990 التي استمرت سبعة شهور، وكذلك امتنانها وشكرها - ولا شكر على واجب - لما قدمناه من دعم بأيد فنية وطنية عاملة في إعادة الإعمار؛ ومنها الشبكتان الكهربائية والتليفونية. ومثلما احتذينا أو استفدنا من خبرات تجربتها البرلمانية الدستورية، فقد احتذت هي الأخرى أو استفادت من تجربتنا الدستورية؛ وتحديداً فيما يتعلق بالمادة التي أعطت للمرأة حق التصويت والترشح للمقاعد البرلمانية، وكلنا نعرف ما لعبته وتلعبه نائبات البرلمان الكويتي من أدوار ومواقف صريحة ومشهودة في ساحة البرلمان في الرقابة التشريعية حتى فاقت جرأة بعضهن زملاءهن الرجال؛ أيا يكن اتفاقنا أو اختلافنا حول طبيعة تلك الأدوار والمواقف.

وإذ نعزي أنفسنا ونعزي الكويت - قيادةً وشعباً - ودول مجلس التعاون وأمتنا العربية والإسلامية في رحيل الفقيد الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، نسأل الباري عز وجل أن يلهم أسرته وشعبه الصبر والسلوان، ونبارك للأمير الجديد نواف الأحمد الجابر الصباح بتوليه زمام الحكم، وحفظ الله الكويت من كل شر.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية