العدد 4418
الأربعاء 18 نوفمبر 2020
banner
فقدنا قائدًا محنكًا
الأربعاء 18 نوفمبر 2020

بوفاة صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة والتي جاءت في غير أوانها وأخذتنا على حين غرة فقدت البحرين وفقد أهلها بل والمنطقة حولنا قائدًا محنّكًا وسياسيًّا بارزًا ومصلحًا كبيرًا.

إن هدفي من هذه المطالعة أن ألقي الضوء على بعض من مزايا وتوجهات الراحل الكبير كما خبرتها وعايشتها عن قرب. وتعود معرفتي بسموه إلى أوائل الخمسينات من القرن الماضي عندما جاء مع الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة طيب الله ثراه إلى لبنان وقاما بزيارتنا - نحن أفراد البعثة البحرينية - في الجامعة الأميركية، والتقيت به عددًا من المرات فيما بعد. ولكن المعرفة الحقيقية بسموه بدأت عام 1970 وذلك عندما عدت من أبوظبي حيث عملت لمدة سنتين مديرًا للأشغال العامة. اتصل بي يومها المرحوم الصديق يوسف بن أحمد الشيراوي ناقلاً رغبة سموه أن التحق بالعمل كمهندس ضمن الفريق الذي يرأسه يوسف. وقد بدأت العمل بتعيني مديرًا للتخطيط. ثم في عام 1973 وكيلاً لوزارة التنمية والخدمات الهندسية عندما تشكلت أول وزارة في البحرين، ثم اختارني سموه وزيرًا للأشغال والكهرباء والماء عام 1975 إثر تأليف وزارة جديده. وبعدها وعلى مرّ الأيام توثقت العلاقة بسموه آخذة في النمو والتجذر حتى أصبح بالنسبة لي ليس رئيسًا فقط وإنما أيضًا صديقًا أعتزّ بصداقته. وكانت له أياد بيضاء عليّ أشير إلى واحدة منها تجسّدت في بادرة إنسانية لا أنساها ولا عائلتي أدت إلى إنقاذ حياتي بكل ما في كلمة إنقاذ من معني.

لقد أتيح لي أن أصاحبه في العديد من الزيارات التي قام بها سموه إلى الخارج بعضها رسمية وبعضها خاصة مما أتاح لي أن أطلع عن قرب على خصاله الحميدة وإنسانيته المحببة وروحه المرحة التي تجسّدت في معاملته لمرافقيه وتواصله معهم وحرصه على راحتهم كما حرصه على الاجتماع بهم وتبادل الأحاديث الودية خارج نطاق السياسة والتقاليد الرسمية كصديق لا كرئيس.

كان متسامحًا لا يحمل في صدره حقدًا أو ضغينة حتى إزاء الذين يختلفون مع سموه في السياسة ويناصبونه العداء. كان يسعى إلى أن يوحّد لا أن يفرّق وكانت له في كل منحى لمساته الإنسانية إزاء الكثيرين وكان يحترم الصداقة ويقدّرها ولا ينسى الصديق.

كان على خلق جمّ في تعامله مع الآخر قريبًا كان أو بعيدًا وكان حليمًا حيث يستوجب الحلم. حتى في غضبه لا يجرح. طيلة 50 عامًا من الرفقة لم أجده يومًا يصرخ في وجه أحد. كان غضبه غضب الحليم يسدّده بطريقة هادئة ولكنها مؤثرة تؤذي ولا تجرح وتعمل مفعولها وتحقق الغرض منها.

كانت أسعد لحظات حياته عندما يلتقى بالناس في مجالسه الأسبوعية التي حرص على استدامتها منذ أوائل السبعينات حتى الأيام الأخيرة من حياته. وفيها كانت الحرية متاحة لإبداء الرأي وطرح المواضيع ومناقشتها والتعليق على الأحداث بروح متقبّلة. لا يحجر على رأي ولا يغضب من انتقاد إذا كان موضوعيًّا بل يتقبّل كل ذلك بصدر رحب. وبقدر ما كان مستمعًا بإصغاء كان محدّثًا بارعًا بطلاقة واندفاع عن سياسات الدولة وعن مواقفه تجاه القضايا التي تثار اجتماعية كانت أم سياسية أم غير ذلك مما يعتمل في نفوس الناس.

في السبعينات من القرن الماضي أي بداية النهضة التي أخذت ملامحها تتّضح وأهدافها تتكون آخذة البحرين إلى مستويات جديدة من النمو والتطور في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والاعلامية والصناعية والمرافق الأخرى. أدرك الفقيد بحسه العفوي أن لا تنمية بدون توفّر عناصر جيدة ذات كفاءات وخبرات قادرة على تحويل السياسات الى خطط ومن ثمّ إلى حقائق ملموسة على أرض الواقع وتحقيق الاهداف المرسومة من قبل القيادة. من هنا بدأ سموه البحث عن الأشخاص المتواجدين في البحرين آنذاك ممن يتوسم فيهم المقدرة والكفاءة والاختصاص، واستطاع بالفعل أن يستقطب عددًا من الخريجين الذين درسوا خارج البحرين وعادوا للعمل في بلادهم. وقد اختار منهم من توسّم فيه الكفاءة والرغبة في العمل وقبول التحدّي بغض النظر عن توجهاتهم السياسية والعقائدية أو انتمائهم الطائفي، وقد استطاع بحنكته ومثابرته أن يحفزّهم ويخلق منهم عناصر وقيادات أدت أدوارًا بارزة في حركة النهضة فكانت سندًا وعونًا للقيادة فيما كانت ترتأيه وتسعى إلى تحقيقه.

وإذا كانت فعاليّة القيادة تقاس بما تحقق على أرض الواقع فإن قيادة سموه تتجلى فيما نشهده حولنا وعلى كل بقعة من أرض البحرين من مظاهر الازدهار والتقدم في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية والتربوية والصحية والبنى التحتية مما يجعل من بلدنا على قلة موارده مثالاً يحتذى.

كان سموه يختار وزراءه بعناية ثم يعطيهم صلاحيات واسعة لإدارة وزاراتهم واختيار من يرونه مناسبًا من كوادر وقوى عاملة ولكنه في المقابل كان يتقصّى ويراقب ويحاسب ويوجّه حيثما اقتضى التوجيه. ينتقد الأخطاء ويناقشها مع الوزير المختص بأسلوبه الناعم ولكن في ذات الوقت، الحازم والمؤثر والناجح. يدل على ذلك تلك النجاحات التي تحققت في العديد من الوزارات. كان يدير اجتماعات مجلس الوزراء بكفاءة وأسلوب عفوي مرن وصبر كبير. كان يترك للوزراء مطلق الحرية في المناقشات وتبادل الآراء والجدال المحتدّ أحيانًا، يتقبل كل ذلك بصدر رحب. وكانت المداولات تصل أحيانًا إلى مستوى الحدّية في الطرح والمناقشة ولكنه لا يتدخل إلا حيث يقتضي الأمر وفي الأغلب على تبريد المواقف وإعادة الأمور إلى نصابها. كانت اجتماعات مجلس الوزراء التي شاركت فيها طيلة 25 عامًا تتّسم بالحيوية والفاعلية والإنتاجية بفضل أسلوبه المميز في القيادة وبصبره واحترامه للرأي الآخر.

كان يلحّ على وزرائه ويشجّعهم على التواصل مع الناس والاستجابة لمطالبهم واحتياجاتهم وأن يقوموا بزيارات ميدانية للمناطق للوقوف على ما تحتاجه من خدمات على غرار ما كان يفعل هو شخصيًّا في أحيان كثيرة، ومن ثمّ تنفيذ ما يمكن تنفيذه في حدود ما تسمح به الإمكانيات المتوفرة. كان يفرح لكل إنجاز يحققه الوزير ويثني على ذلك ويشجع على المزيد.

بينما كنت أخط سطور هذه المطالعة كانت صورته تطل عليّ وذكراه الحبيبة تثير في النفس حزنًا وألمًا. وتلوح في الأفق الأيام الجميلة التي كان فيها بيننا. ولكن لا عزاء لنا إلا أن هذا قدرنا جميعًا ومصيرنا المحترم.

أبا علي ستظل ذكراك عطرة في نفوس كل محبيك وهم كثيرون. فلترقد بسلام رحمك الله. وأنزل السكينة في قلوب ذويك ومحبيك.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية