العدد 4434
الجمعة 04 ديسمبر 2020
banner
أوّل أسفاري في بلاد الرافدين (العراق)
الجمعة 04 ديسمبر 2020

مـسـّرات طفوليـّة تنغـّصها مخاوف والام وضياع

خلال عام 1936 كان عمري  زهاء خمس سنوات .وكان والدي دؤؤبا على السفر الى العراق برفقة العائلة.وذالك لزيارة مراقد أئمة أهل البيت عليهم السلام.لاسيما في النجف الأشرف وكربلاء والكاظمية وسامراء, ومسجد ألامام علي ابن أبي طالب في مدينة الكوفة وما بين تلك المراقد من مقامات شريفة اخرى.

كانت زيارتنا للكاظمية - وهي احدى ضواحي بغداد – محسوبة عندي في تلك السـّن – مصدر دهشة  وعنوان مســّرات.

يقوم أكبر المضـّيفين لزوار مراقد ألأمّة  بأنزال الوالد والعائلة ومن في معيتنا من السعاة , في مسكن (خانات ) مربعة الشكل من طابقين  حجراتها والغرفات جنبا الى جنب  معـّدة  للزوار من طراز البناء القديم. في وسط كل منها حوض ماء وحنفية لأسباغ الوضوء.وفي بعضها شجر وأزهار. يستقـّل الوالدان بغرفة وأخرى لسكني مع أخوي صادق وحسين وذالك  قبل أن تكبر العائلة بمجيء البنات.

تلك الخانات  القديمة لا تعرف الصيانة الدائمة ومعظم الغرف والحجرات وشرفاتها العريضة يستقـّر في أرضها التراب , وفي سقفها  يتطايرالخفاش والغراب ,وتنسج العناكب بيوتها في الزوايا وفي مغاور الممرات خلايا الزنابير الجارحة. لو سكن فيها شاعر العراق أحمد الصافي النجفي لما اكتفى بقوله :

( يسكن فيها بلا كراء * فأر وبـّق وعنكبوت )

أما النمل فهو على طبعه يحفر بيوتا ثم يستبدلها بأخرى.

أما أنا فقد وجدت في كل ذالك تحديا لشجاعتي وتسلية لقضاء وقت  الفراغ. أحمل في يدي لوحا خشبيا وأروغ على الزنابير ضربا باليمين فلا أسلم من وخزة ارجع  بعدها باكيا ثم اعود ادراجي لأكمال ما بدأت.  أما حربي على النمل

فهو يسير !! وقد كفاني الشاعر أحمد الصافي النجفي في شأن العنكبوت المعشعش في زوايا السقف بقولـه :

( واعـتزل العنكبوت أمـري * وفي بقاه معي رضيـت

فهو معـي مثل فيلسوف * معتزل دأبـه الـّسكوت )

في الكاظمية مرقد الامامين عليهما السلام  موسى ابن جعفر الكاظم وحفيده ألأمام محمد الجواد.ويسمى مقامهما في الحضرة الشريفة في الكاظمية أيضا بالجوادين والكاظميين... بعدما كبرت ودرست عرفت  من مصادر شيعة أهل البيت أن الأمام موسى  ابن  جعفر (الكاظم ) قضى نحبه مسموما في السجن بأذن الخليفة هارون الرشيد , سنة 799 م – وأن حفيده ألأمام محمد أبن علي الجواد قضى نحبه مسموما

بأمر المعتصم العباسي عام 853 م.

يؤدي والدي حقوق الزيارة وأنا معه  لمرقد الامامين والصلوات الخمس خلف امام الجماعة في الحرم الشريف ويدعو ربـّه باكيا متضرعا من كتاب الأدعية ( مفاتيح الجنان) وحين يصـّلي في المنزل لا يغضب حين القي بنفسي على ظهره اثناء السـّجود.

وتحين عندي ساعة الفرح والسرور حين يصطحبني والدي دون غيري من الأخوة للذهاب معه الى بغـداد فأستريح من شقوتهما معي لكوني أصغر الأخوة - وتطاولهم علـّي في احتلال المقاعد ألأمامية والتمتع بالمناظر سواء اثناء السفر أو في البحرين وكذالك من مزاحمتي على لذائذ الطعام متحلقين  على مفارش الارض( الـسّجادة) حول الخوان( الصينية)

نأكل بأيدينا دون  التزام أحيانا لاداب ألأكل التي قال  فيها الشاعر الجاهلي :

( أكــّف يدي عن أن تمــّس أكـّفهم * أذا نحن أهوينا وحاجتنا معا )

فقد كان من شأن بعضنا أن يخبيء اللحم أمامه ما لم تفضحه نظرات الوالد الرادعة.

أصرف والدي حين يتهيأ للذهاب الى بغداد عن ركوب سيارة (التاكسي) وأتمسّك بردائه وأقوده الى محطة العربة التي تجـّرها ألأحصنة وتمشي على سكة الحديد وهي من دورين وأسبقه الى درجات السـّلم للدور العلوي فيتبعني متأفـّفا لانه يعاني من ألام الـّركب. وعربة ألأحصنة على القضبان كانت من بقايا العهد التركي العثماني.لها محطة في نصف الطريق الى بغداد يتم فيها تغيير الأحصنة المجهدة .

ومبعث سروري حين يصل والدي الى بغداد قاصدا سوق ( الشورجة )الكبير

لملاقات عملائه الذين يستورد منهم للبحرين الدقيق ( الطحين) والـّرز المشهور برز العنبر وله طلب كبير في أسواق الخليج والبحرين خاصـّة .

ثـمّ يأخذنا التاجر لزيارة مطاحن الدقيق فأراها لأول مرة في حياتي بين ضجيج الماكنات وغبار الدقيق المتطاير.ثم يسير بنا الى مطعم الشواء لتناول وجبة الغذاء.

ولي مع أسياخ الكباب المضمّخ بالسـّماق وما يدور من حوله من أطباق -  شهـّيـّة ومـذاق.

وبعد أن ينتهي والدي من عقد الصفقات التجارية يتفـّرغ لزيارة أصدقائه وفي مقدمـّتهم الحاج حسون طه -  وهو أشهر المضـّيفين والمطّوفين لزوار مشاهد أئمة أهل البيت- ومكتبه  في خان الشاه بندر من سوق الشورجة ( تحت الطاق )

ومن عادة والدي أن يودع نقوده لحفظها عند  الحاج حسون ويحتفظ منها بما يناسب مصروفه لأسبوع ثم يعيد الزيارة لنفس الغرض.ويفعل مثل ذالك حين يأتي الى النجف فيودعها لدى صديق من الصيارفة..وبذالك يأمن من سرقة رأسماله اثناء تجواله في أنحاء العراق.

وتطول سفرات والدي للعراق لعدة شهور ويلجأ للتخلص من مناكفاتنا لأدخالنا في مدرسة ( البحـّية ) في الكاظم يديرها ألأستاذ محمد سعيد ألأنصاري ( ال جمعة)        سابقا ..مع أخيه عبد الكريم ال جمعة وبينهما وبين والدي رابطة نسب عائلي. والأثنان استدعاهما والدي للبحرين  من قبل في سنة 1927 : ألأول لأدارة المدرسة الجعفرية ألأبتدائية للبنين في المنامة, والثاني لأدارة مدرسة الخميس ألأبتدائية.

ومما يلفت النظر في دروس مدرسة (ألبحيـّة) وجود حصص لتعليم الموسيقى والضرب على العود على نغمات يرددها ضارب العود ( قومي عظام , عرب كرام) ممّا كان غير مألوف في مدارس البحرين وفي المجتمع.ما عدا المدرسة الجعفرية التي أدخل فيها مديرها محمد سعيد  ال جمعة حصة للموسيقى وأدخل فيها أيضا نظام " ألفتـّوة " أسوة بالعراق في عهد الملك غازي.وهي فرقة بلباس الكشّافة تعزف الموسيقى بأناشيد وطنية تبحرنت كلماتها لتصبح ( وفينيقيون هم خير الجدود – مثلما سادوا نسود ..) ثم تتجـّول في الأحياء والأسواق مما سبّب ازعاجا لمسشار حكومة البحرين حتى قرر تحويلها من مدرسة أهلية الى مدرسة حكومية في عام 1932 تحت اسم ( المدرسة الخليفية ألأبتدائية للبنين ) وقد درست فيها وشاهدت بقايا المدرسة الجعفرية مثل درع الفتوة وعليه شعار وكلمة ( وأعـدوا ) التي كنت مع الطلاب نتبارى في قراءتها وفهم معناها..وكذالك حجرة فيها الالات الموسيقية والأعلام وحواجز خشبيبة للمسيرات تم تسليمها لفرقة شرطة البحرين.وبقيت سلالم الحبال المشبكة على واجهة  جدار المدرسة الغربي لاستعمالها في التدريب على التسـّلق ..ومعظم من كان  يخاطربالتسـّلق عليها من الطائفة اليهودية.

سفرتي هذه في سـّن الصغر وكـّن الطفولة.. حفلت بالمسـّرات كما حفلت  بالمخاوف والمنغـّصات.

أولا : مخاوف الطريق :

نزل بنا والدي في بلدة ( الديوانية ) من قطار البصرة في انتظار صاحب التكسي يعرفه من النجف أمينا على العائلة ليوصلنا الى النجف (واسمه صحن ). وأثناء أنتظارنا  في محطة القطار لفت نظري توابيت خشبية للأموات مصفوفة بعضها الى جنب بعض !! وذالك لنقلها للدفن في مقام النجف تيمـّنا بالمرقد  الشريف للأمام علي. وأخذني الفضول للتجول بينها وبها روائح تصّم الأنوف ووالدي يجّرني في كل مرة اليه مستنكرا. وفي الهزيع ألأول من الليل حرنت سيارة الأجرة  في موضع موحش من البادبة ..فقد نفذ منها الوقود . وحمل السيد  (صحن ) غالونات لملئها بالبترول وغادرنا وحيدين في ذالك القفر. قالت أمـّي لأبي وهي من النجف - وصدقت – أن أهل النجف يعرفون أن في هذه المفازة عصابات لصوص الصحراء . فخـّبأت ما عندها من حـلّي وذهب تحت المقاعد ونصحت والدي بأخفاء نقوده أيضا والأكتفاء بالقليل منها اذا باغتنا اللصوص ففعل.

ولم تمض غير برهة وجبزة وأذا باللصوص يحيطون بنا من كل جانب وأعتراني وأخوتي الخوف الشديد !! أشارت الأم الى الوالد أن يفرش لهم بساطا

ويكرمهم بالقهوة والشاي والتمر باعتبارهم ضيوفا يستثير فيهم النخوة العربية : يا أهلا ويا مرحبا بالضيوف..  ويفتح لهم باب السيارة الخلفي ليروا ما نحمله من متاع. وانصرف احدهم  عن  والدتي حين علم أنـّهاعلوية من  سادة النجف ومن عائلة طباطبائي ولا تحمل معها لاذهبا ولا فضة فقد تركتها في البحرين وأنها سوف  تشكوهم الى جدها رسول الله . والتحق بجماعته وهم يستجوبون والدي ويهددونه بالسلاح بعد أن أشعلوا نارا من أعواد الصحراء تسمى ( العنجلية ). قال لهم فيما قال  أنـّه لايحمل من نقود ألا ما يكفي للطريق والباقي اوراق حوالات وما بجيبه من نقود فهي لهم أن أرادوا ذالك. وأما الأمتعة  ففيها هدايا للأصدقاء  :الربيان المجفف ولومي البصرة ( من عمان)  والسمك المجفف (أحلى) وسكـّر وشاي وقهوة يمكنهم أن يأخذوا منها ما يشاؤؤن.ونحن من الزوار قاصدين مشهد ألأمام علي  ...  ثـّم أتانا الفرج والوالدة تلوذ بالأدعية والتضّرعات لله. فقد رجع السيد صحن حاملا الوقود ومعه ثــّلة من الخيالة  من حرس الحدود ..وأذا بهم يفـّرون متـّخذين من ظلام الليل ستارا يحجبهم عن العيون. وحمدنا الله على سلامتنا. وقد خلـّفت هذه الحادثة في صباي اثارا نفسية اصبحت تقـّض مضاجعي في النوم بأحلام مزعجة الى أمد طويل.

ثانيا: مخاوف التيه والضـّياع:

جـّدتي لأمي كانت المنقذ لها من عبث الولدان .تصحبني وأخي الى  أسواق النجف. وبعض الأسواق ممّهدة والكثير منها غير مـّمهد.وفيها عنابر تحت الأرض,تدلّ على وجودها شبابيك متوسطة الحجم من القضبان لمرور الهواء , كانت نعلي تتعثـّر بها شأن والدي لولا أنّ قدمه اليمنى حبست مرة بين تلك القضبان فانكسر منه عظم الورك وظل يعاني من ذالك الأمـّرين حتى أخذناه في سنة 1953 الى مستشفى في بيروت وأجرى له دكتور فرنسي مشهور اسمه السيد (فريشو) عملية جراحية استبدل فيها العظم المكسور باخر من البلاستيك .

جــّدتي لأمـّي صحبتني وأخي ذات مـّرة الى دكان خــيّاط , وفي أثناء الكلام مع الخياط هرب أخي فلحقته الجـّدة واخذتني الحيرة فركضت خلفهما وقد غابا عن الأبصار وأصبحت وحدي ضالا عن الطريق وأنا انتقل من حي الى اخر باكيا لا أملك جوابا على أسئلة المارّة غير الدموع ونداء أريد أبي.حتى وصلت الى اخر الحارات وما بعدها سوى ما يعرف ببحر النجف والصحراء. أمسكني أحد الطيبين قائلا لمن معه لن نفلت هذا الصبيّ ألضايع من أيدينا خوفا من بدو الصحراء المعروف عنهم اختطاف الولدان واستخدامهم أو بيعهم فيما بعد.

ثم ســّلموني بصحبتهم الى مركز للشرطة قريبا من حضرة الامام بينما كان المنادي من فوق المئذنة يذكر أوصافي للسامعين للعثور عليّ.

حادثة التيه والضياع هذه لم تمـّر على طفولتي بدون اثارنفسية عميقة. وظـّلت

أحلام التيه والضياع ترافقني حتى أواخر العمر.

ثالثا : مخاوف والام من نوع اخر:

قال والدي لا بد من ختان هذا الصبيّ !! وأذا بجلاوزة غلاظ  شداد يحملونني قسرا وأنا في صراخ وبكاء الى فناء منزل يشحذ فيه الحلاق موسى الحلاقة ويجلسوني أمامه مكتـّفا لا استطيع الحراك. ومصدر الخوف كان كامنا في النّـفس من جراء اسلوب في تعامل  بعض الكبارمع الولدان في البحرين حين يركبهم الغضب من جراء  تصرفات  لا تعجبهم من الولدان فيعمدون الى تمثيل عملية الختان بأصابعم وشفاههم المزمومة  ..تصوير ساذج لعملية الختان تشعل الخوف في الجوف ويبقى أثر تلك المسرحية في فرار الولدان  وخوفهم من عملية الختان.

عــّدة الحـّلاق لأجراء الختان بسيطة عبارة عن الموسى وبعض القطن وسائل (ألأيودين) وبعض الأدوات و لايسبق العملية تطهير الموضع ولا هم يحزنون.ويقيم والدي مأدبة فرح بتلك المناسبة مع نصائح مشـّددة لأمساك الثوب  بأحدى اليدين بعيدا عن الجرح حتى يطيب. وفي بلدان أخرى مثل مصر والمغرب العربي تجري أحتفالات ومسيرات ودفوف وطبول ورقصات وولائم ويتم حمل المختون (ألمطـهـّر) لزيارة ألأضرحة والمقامات  الدينية.

عالـم اخر للصـّبي يفرح فيه ويمرح :

أنجبت أمي  بنتا وما زلنا فـي النجف وانتشى المنزل فرحا. ويدور في خلد والدي ما يدورفي أذهان ألأمهات والاباء عموما بشأن الخوف من عدم تقبل الصبـّي المدلـّل لمنافس له يصرف عنه ذالك الحب الأبوي الى المولود الجديد وتركبه الغيرة من المولود. وأنقذ خالي ( السيد عيسى السيد محمود ) والدي من حيرته حين اشترى خاتما على قياس اصبعي مكتوبا عليه اسمي بالحرف الأنجليزي ..جاء به والدي ألي وهو يقول : هذه البنت تحبك كثيرا ووجدنا هذا الخاتم معها هدية أليك..فصـّدقته وأخذت المولودة  ( بتول ) بالقبل  والأحضان.
 
زيارتي ومشاهداتي في الحضرة الشريفة :

بعيون صبيانية وفضول كنت اتجول في  (المشهد الشريف )..فماذا رأيت !

أول ما أدهشني بريق الذهب على القباب والماذن في الحرم الشريف,وأقول في نفسي : ما ذا يمنع اللصوص من سرقة الذهب ولو في ظلام الليل. ثم أغوص طولا وعرضا بين ألزوار من القرى والأرياف ( المعدان ) ومعظمهم من النساء يفترشن أرض الساحات (الصحن ) بأمتعتهن لا بسات السواد وفيهن من يبعن الخبز البلدي اللذيذ والجبن (والقيمر ) ولي ولع خاص بالقيمر فأشتري منه على قدر دراهمي القليلة.رغم تأففي حين تنزع البائعة عودا من أنفها المخروم لتشـّق به حصتي على قدر ما دفعت.

ثم أرى الصبيان والبنات يسرحون ويمرحون يتخذون من صحن المقام الشريف ملعبا ومرحا بضجيج وصراخ. فلا يغريني ذالك بالدخول معهم في العبث,لا سيما حين ينتبه لهم القائمون على المشهد فيكون مصيرهم الطرد والأهانة.

ومن المشاهد ألاخرى جنائز ألأموات وهي تخترق الصفوف والمشيـّعون حولها يرددون ذكر الله.- لا أله ألا الله محمد رسول الله علي ولي الله-  أذكر الله يا غافل ..الخ. ثم يتم مرورالجنائز حول القبر الشريف. أما دفنها فهو على مراتب ودرجات. فناء المرقد الشريف لبعض الخاصة من الوجهاء بدفع المال – ربما – وفناء الصحن الشريف لذوي الحضوة من مشاهير العائلات.

وللفقهاء ومشايخ الدين في حجرات خاصة بجانب أبواب الدخول وأشهرها باب ( الطوسي) وقد أمر ألمرجع الديني السيد محسن الحكيم بدفن والدي في الحجرة بجانب باب الطوسي مع العلماء تقديرا لخدماته للمراجع الدينية  وتعميم الفتاوى الفقهية وتسليم الحقوق الشرعية ولزهده وتقواه.

والجنازات ألأخرى يحملها سعاة بأجر لدفنها في مقابر النجف خارج المدينة.

كما توجد مباني لمدافن عائلية في مدينة النجف وما حولها للعلماء وميسوري الحال.

والغريب وانا في سن الصغر لم يأخذني الخوف والوجل وأنا أطل من شرفات الصحن وأرى مدافن الأموات حيث يوضع المدفون بأكفانه فوق رفوف رخامية بعضها فوق بعض شبيهة بغرف الدرجة الثانية في بواخر السفر الهندية !! لولا أن تلك الرفوف سفر لا رجعة فيه,لأموات من ورائهم برزخ الى يوم يبعثون.

ولا بد لمن يزور مرقد الأمام الشريف أن يخلع نعليه ويمشي حافيا.بعد أن يستودعهما عند حارس المدخل ( الكيشوان )المخصّص للرجال أو للنساء من باب اخر.. والأحذية والنعال لا تسلم باليد للحارس بل تترك مكانها ليلتقطها الحارس بعصاة طويلة في نهايتها ملقط - كما يلتقط الصـّياد بصنـّارته الأسماك -  ثـم يستودعها  في احدى الخانات المربـّعة كخلايا النحل.وتعجبني هذه العملية فأتوقف عندها ملـّيا قبل الدخول.

وللدخول الى القبر الشريف توجد مراسم لا يجوز تجاوزها ألا عند الصبية – ربما – وقبل الوصول الى بوابة الدخول الكبيرة المزخرفة بايات من القران الكريم مجموعة من المطـّوفين أو ( المــّزوربن ) وعلى رأسهم الطربوش    ( الكشيدة ) مطـّوقة بشريط عريض من القماش  باللون لأخضر..  يتبارون في عرض خدماتهم  مقابل أجر,لأداء مراسم الزيارة لمن يشاء او من لا يعرف قراءة الأدعية.

أمام بواب الدخول يقف الزائر خاشعا ويلقي تحية  الصلاة والسلام على محمد وال بيته ويخص الأمام بما هو أهل له :(أشهد أنك أقمت الصلاة واتيت الزكاة وأطعت الله وسوله  وجاهدت في الله حق جهاده حتى اتاك اليقين ...الخ.) ثم يستأذن بالدخول : (أأدخل يا ألله  أأدخل يارسول الله . أأدخل يا فاطمة الزهراء بنت رسول الله ,أأدخل  يا  أمير المؤمنين.. ثم يستأذن الدخول من باقي أأئمة أهل البيت عليهم السلام.

ولا ينتظر الزائر جوابا من أحد ويدخل ألى الى القبر الشريف متوكلا  على الله بخشية ووقار وسكينة  وانتظار اللهم ألا في مواقيت زيارات الفضيلة  (المخصوصة)حين يزدحم الناس ويهرعون الى  أختراق الصفوف والتوسل لله عند القبر الشريف بعد تقبيل ( الشـّباك ) في مواضع متعددة.. ثم أداء الصلاة وقراءة ألأدعية المأثورة.وألقاء السلام عند الخروج.وأجلس على أرض الروضة الشريفة مليـّا

لأتأمل في تلك النقوش العجيبة  والايات القرانية على الاسقف والجدران لاسيما تلك المقرنصات من الزجاج المتلأليء التي تبهر الأنظار في تلألؤ الثريات الكبيرة كثيرة العدد  وانعكاسات  أنوارها من الكريستال البوهيمي الثمين.

ومن خلال الشبابيك الفضية المحيطة بالقبر الشريف أستطيع أن أتأمل مجموعة من هدايا  النذورللأمام : نقود وعملات من مختلف البلدان متراكمة تحيط بالسياج  وهو من الخشب النادر المزخرف بايات من المصحف الشريف – جواهر ثمينة وبعض تيجان الملوك مرصعة بالألماس والأحجار الكريمة ومعظمها من العصر الصفوي.وتلك هي بعض النماذج مما في خزنة الأمام المكتنزة بكل نادر وثمين يأتمن على مفاتيح الخزنة كبير خدام الحضرة العلوية ( الكيليـّـدار) ويتم فتحها للملوك وكبار المسئولين فقط. ويقال عن شاهات وملوك الصفويين  وفي مقدمتهم الشاه عـّباس الصفوي ..أنهم بمجرد ما يلمحون ترائي قبة الأمام يترجـّلون ويحملون تيجانهم بأيديهم ويمشون حفاة الى القبر الشريف ثم يهدونها لمرقد ألأمام الشريف.

ولعل في ذالك – ربما – سياسة لاستدراج العامة واسترضاء بعض علماء الدين المعارضين للحكم الصفوي لأسباب كثيرة من أهمها أدعـّاء الصفويين بأنهم وكلاء للأمام المهدي الحجة المنتظر.ومن الاسباب  ألأخرى -ربما – عقيدة أهل التدين في أنه لا يجوز الدعاء في خطبة صلاة الجمعة للحاكم الغاصب أو الظالم أو المخالف لشروط العدالة وأحكام الشرع.

ويشترط لمن يؤم المصلين في الجماعة أن يكون معروفا بالعدالة والتقوى.

واليتفـّقهــّوا في الــّدين :

علوم الدين والفقه والشريعة في النجف يتم تدريسها في مسـارين : كليات الفقة على النظام الرسمي ويمنح طلابها شهادة الماجستير والدكتوراه. أما مرحلة الأجتهاد في الفقه الشرعي فتختص بها حلقات التدريس بأشراف المراجع الدينية ومعظم تلك الحلقات تنتظم في ساحات مشهد ألأمام علي عليه السلام.

يدرس طالب العلم مقيما كان أو قادما من البلدان الاخرى على يد أحد المشايخ في حلقة أي واحد منهم يختار الجلوس الى دروسه.وله حرية الدوام المنتظم او الغياب .وأذا لم يعجبه درس ينتقل الى حلقة اخرى وله الحرية في أن يعود الى شيخه الأول او لا يعود.وتزود المرجعيات الدينية طلاب العلم بالحد الأدنى من قوته وقوت عياله من أموال الحقوق الشرعية التي تدفع للمرجعيات. ومعظم تلك الحقوق الشرعية تأتي من دفع الخمس ( كما تنص الاية 41 من سورة الأنفال )  أو الزكوات , حيث تفسّـر عبارة ( ما غنمتم من شيء )على انها تشمل ايضا الأرباح . ولوالدي رحمه الله اجتهاد في دفع الخمس للمراجع الدينية في النجف.يدفع لهم شطر ما لله وما للرسول ويحتفظ بالباقي لتوزيعه بنفسه على المستحقين.

أول الدروس لطلاب العلم المستجدين  في المقدمات : اللغة – والنحو والمنطق والاداب وبعض المقدمات الأخرى .. ثم ( السـّطوح)وتشمل  فيما تشمل دراسة الكتب ألأستدلالية وأصول الفقه والفلسفة وما شاكل.  ثم دراسة الخارج وهي الدراسات العيا التي تنتهي بالوصول الى مرحلة ألأجتهاد لمن يداوم على الدروس.وهناك من يكتفي بما دون ذالك وينصرف الى شؤؤن اخرى. وبسبب ما يتمتع به طالب العلم من حرية الدوام أوالانصراف والأقامة أو السفر فقد تستغرق مرحلة الوصول الى مستوى الأجتهاد سنوات طويلة قد تصل الى خمس و عشرين عاما !!

ولا يحصل الدارس على اعتراف المرجعيات الدينية الموثوقة  بوصوله  الى درجة  ( ألأجازة) وألأجتهاد  -ألا بعد امتحان عسير ومناقشات محتدمة وأن يكتب أبحاثا  في الفقه والفقه المقارن في مستوى تلك الدرجة. ومن يحصل على الأجتهاد ويسعى الى ن يصبح مرجعا دينيا له مقلدين يتبعون فتاويه فعليه أن يصدر رسالة عملية لمقلديه تشمل أحكام العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية وغيرها من منظوره الفقهي مختصرة بلا حيثيات.وحيثيات احكامه يناقشها الممتحنون من المراجع الفقهية. ويستلم خطابا يؤهله للرواية والاجتهاد في الأحكام  الشرعية  تحمل توقيعات  وأختام من عدد من المراجع المعتمدة.والمجتهد المعترف به يتمتع بحرية ومناقشة اراء وفتاوى من سبقه من العلماء مهما عظم شأنهم في تاريخ الطائفة. والأصوليوون من علماء الطائفة لا يجوز عندهم تقليد الأموات ولا الحكم على القياس.وذالك طبقا لقاعدة تغــّير الأحكام بتغـّير الأزمان , والمجتهد الحّي أعرف بحالة زمانه  وما يستجد من امور في تطـّور الأحداث لأصدار الفتاوى المناسبة  لزمانه ولأحكام الشرع.

بالنسبة لي في تلك السن من العمر لم أكن أعرف عن تلك الدروس ألا بعد أن امتد بي العمر وتكررت زياراتي للمشهد الشريف.وأهم ما كان يستهويني في تجوالي الفضولي بين حلقات التدريس وهم جلوس على أرض الساحة , تلك العمائم البيضاء والسوداء تهوي بصاحبها للأسفل اشارة الى الرضا والقبول  أو تنتصب في حالة السؤال او المناقشة. كما كان يعجبني أنصات الطلاب للمدرس وكتابة الملاحظات وحسن الأدب في الحوار فلا تجاوز ولا صراخ

ومن لا يعجبه الدرس يلملم عباءته وينصرف الى حلقات أخرى.

وكان والدي يصحبني لصلاة الجماعة في أوقات الفرائض – وهو يلبس دائما عمامة صفراء من صنع الهند يستعلها طائفة  (البهرة) الاسماعيلية.وأحاول أن اجلس بجواره في الصفوف الأولى ويحتل معظمها  أصحاب العمائم من العلماء  والسادة والوجهاء ..وأذا بالأيدي تمتد لأزاحتي نحو الصفوف الخلفية من صـّف الى صـّف حتى أصل للصـّف الأخير حيث اجد من هم على شاكلتي من الصبيان.وأذا شعر الصبيّ منهم بالملل من طول القراءة أو طول الركوع والسجود فهو ينسّل من صلاته دون أن يشعر به المصلـّون.

مدينة النجف الأشرف هي مقر مراجع الطائفة وفيها كل ما يجتذب الزائرين سواء كانوا من عامة الناس أو من  المثقـّفين والطلاب والأدباء والشعراء والمتســّوقين وغيرهم . فيها أكبر وأقدم محلات بيع الكتب والمخطوطات –

وأقدم مدارس الفقه .وفي معظم أحيائها  دورلمكتبات عامة للمطالعة والقراءة والأستعارة أوقفها علماء وتجار خدمة للمعرفة وللباحثين.وهي مدينة تراثية في شكل بنائها حافلة بالسراديب العميقة في باطن الأرض متـّصلة بعضها ببعض يقال أنها كانت ملاجيء وممرات لسكان المنازل للتخفـّي عن مداهمات الغزاة , والنزاع المسلّـح السياسي بين فريقي ( المشروطة :  والمستبـّدة )

وأصل ذالك التقاتل والنزاع . فتوى من علماء  أيران  سببت  خلافا بين العلماء : من يؤيدون الحكم الدستوري أوالحكم ألفردي القاجاري.

ومن بين صناعات التصدير في النجف معامل  المنسوجات والحياكة اليدوبة على الأنوال . كان أبن الخالة السيد ميرزا  يصنع النسيج بنفسه على النول

والأمشاط يديرها بما تشاء الكـّف والقدم وتحدث حركاتهما موسيقى رتيبة تطرب لها أذناي – قبل أن أخطف منه عددا من مناديل اليد المزركشة وهو يبتسم.

ولأسواق النجف شهرة كذالك في بيع الملابس وأثواب (البـّز) والتحف ومسّبحات الصلاة ومسابح الكهرمان وما شابه ذالك. ومن أهم شهرتها في الخليج عباءات غالية الثمن من الصوف ومن شعر الماعز. يدلـّل البائع للمشتري على نقاء وخفة أصوافها بطـّيها  في كفـّيه.

ومع كـلّ ما ذكرت فأن لشاعر النجف ( أحمد الصافي النجفي ) وصف اخر للنجف في قوله :

( وواردات بلــدتي جـنـائز ** وصادرات بلدتـي .. عمائم)

مـا أحلى الرجوع أليه :

في السفر يفتقد الصبي مدرسته وأخدانه وملاعب الصبا حين يسرح ويمرح

كما يفتقد استقراره العائلي وتمتـّعـه بالحنان الأبوي بعيدا عن انشغالهما عنه في ترتيب امور السفر والتنقل وأسباب المعيشة وكثرة الزيارات للمشاهد ومجالس الأصدقاء. وتركبه مثل غيره خواطر الحنين الى الوطن.

وقد تنفـّست الصّعداء حين أعلن الوالد عزمه على الرجوع  للبحرين. وسرحت في ذكرياتي الماضية  قريبة المنال.

وانشغل والدي في شراء الهدايا . أما الوالدة فأصرت على زيارة مشهد ألأمام الحسين في كربلاء مرة اخرى , شطر للزيارة واخر لشراء حقيبة ملأتها بهدايا معظمها من نعال النسوة ( المداس ) من مختلف ألمقاسات .

ومن تقاليد من يرجع من زيارة الأماكن المقدسة أن يجلس لاستقبال المهنئين

ثلاثة أيام وهم يصافحونه ويرددون عبارة ( تقبل الله الدعاء والزيارة ) وتجلس أم الأولاد أكثر من ذالك. أما القادم من أداء فريضة الحج فيكون الجلوس لسبعة أيام والعبارة مثل ( سعي مشكور وحج مبرور وتجارة لن تبور ). وتلك تقاليد زمان مضى.

تلك كانت  السفرة الأولى في حياتي الى العراق ..ثم تبعتها سفرات وسفرات

منها أربع حول العالم بطوله وبعرضه.

وختاما فأنها ذكريات عبرت في خاطري وانا في اول تدوين لأسفاري... ذكريات زمان مضى يوصف اليوم " بالزمن الجميـل ".

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .