العدد 4442
السبت 12 ديسمبر 2020
banner
العلاج الطبي بين المعرفة والإدراك
السبت 12 ديسمبر 2020

يشهد الطب البشري في العصر الحالي تطورا واضحا للعيان، من حيث تشخيص الأمراض باستخدام تكنولوجيا طبيّة متناهية الدقة، وجراحة بطرق وأجهزة دقيقة وذكيّة بحيث تكون نتائجها متوّجة بالنجاح بحسب موقع الجراحة ودواعيها، ناهيك عن علاج الأمراض بأدوية ذات فاعلية ضابطة لأعراض الأمراض بحيث لا تخرج مقاييس الجسم الطبيعي عن مستواها الطبيعي، فتصبح أعراض المرض صادمة ومهدّدة للحياة، فعلى سبيل المثال، هناك أدوية فعّالة في التحكم بمستوى السكر في الدم في حالة داء السكري النوع الثاني، بحيث لا يتعدّى السكر مستواه الطبيعي فتخرج الحالة عن السيطرة بالإصابة بالغرغرينا، والذي هو موت نسيج في منطقة معيّنة في الجسم بسبب ارتفاع السكر الذي بدوره يتلف الأوعية الدموية الموصّلة للدم الحامل للغذاء والأوكسجين إلى تلك المنطقة.

والحق يقال إن ذلك التطوّر الطبي هو معرفة وتطبيق عملي لما تمت دراسته، وإتقان لمهنة قد تكون مرتبطة بقيمة للطبيب المعالج كأن يبحث ويتجلى في المعلومات والحلول الطبيّة خارج أوقات عمله بعد استقبال المرضى، أو أن تكون مجرّد مهنة يحصل بها على مقوّمات البقاء، بحيث يمارس بعد أوقات عيادته نشاطا آخر هو قيمة بالنسبة له بعيدة عن الطب والتطبيب، لهذا فإنه شتّان بين ممارسة قيمة الطب وعمل الطب.

لذا، فإنّ للمتبصّر في عمق ما نحن بصدد الحديث عنه أن يدرك المعطيات الكامنة في سؤال المليون دولار التالي: لماذا يفشل الطب في مساعدة المرضى على الشفاء والتخلص من معضلة المرض، بحيث يستمر المريض في أخذ العلاجات التي تضمن استمرارية بقائه تحت وطأة التوتر والقلق مخافة فقد زمام سيطرة جسده على أعراض المرض! بدلا من شفاء جسمه وعودته إلى الصحة المستدامة التي هي الأصل في خلق الإنسان؟ بغض النظر عن الأمراض الوراثية والتي لنا فيها حديث آخر.

الإجابة تتجلى في الكشف عن سبب المرض المزمن والذي إن لم يصب الإنسان في سنّ مبكّرة، فإنه يصاب به في عمر متقدّم كأمر بديهي بالنسبة للغالبيّة العظمى والتي تشكّل ما يقارب 95 % من البشر، لماذا يصاب الإنسان بالمرض المزمن؟ ولماذا يعجز الطب عن شفائه، بإعطائه مقومات الشفاء؟ الحق أنّ الله سبحانه هو الشافي، ولكن ذلك عن طريق قوانين مشفّرة في البناء الكوني. لقد وضع الله سبحانه مفتاح الشفاء في قلب الإنسان.. لكن يأبى الإنسان أن يسمح لنفسه بإدراك قانون الشفاء الرباني.

وإذا ما أتينا إلى معضلة المرض والذي ينتج من الضغط العصبي المزمن الذي بدوره ينعكس على الجسم بعدم اتزان بيئته الداخلية، فإنّ تلك الحقيقة تستدعي التعامل الجذري مع ما أدّى إلى الضغط العصبي المزمن والذي بدوره ظهر على شكل مرض مشخّص بأعراضه، كلّ بحسب نوع الانفعال الملازم لحالة ذلك الضغط المزمن، فعلى سبيل المثال، فإنّ تكرار حديث الذات المؤلم بعدم إنتاجية الفرد التي تملأه بالسعادة التي تنبع من إبداعه وابتكاره في عمل هو قيمة عليا بالنسبة له، وتضحيته بممارسة عمل مجهد من أجل الكسب المادي لتوفير احتياجات أبنائه وعائلته، يبعده عن تحقيق ذاته ويجعله في حالة البقاء دون الحياة، تلك المشاعر المؤلمة التي تتكرّر كشريط في منطقة اللوزة الدماغيّة تؤدّي بالنتيجة إلى إفراز هرمونات الغدّتين الكظريّتين منها النورأدرينالين الذي يؤدّي مثلا إلى انحسار الدم الذي يروي المعدة بانقباض الأوعية الدموية المبطنة لها، ما يمنع وصول الغذاء والأوكسجين اللازمين لتجديد الخلايا المخاطية المبطنة لجدار المعدة، فتكون النتيجة تعريض جدار المعدة للعصارة الحمضيّة التي داخل المعدة واللازمة لهضم البروتينات، ما يدمّر نسيج جدار المعدة بتلك الحمضية وظهور قرحة المعدة، وهذا مثال بسيط لحقيقة نشوء وظهور المرض، الذي يعود إلى عدم تحقيق الإنسان الغاية من خلقه أي ممارسة ما يشكّل قيمة عليا بالنسبة له برؤية هدف واضح فيه ترك الأثر الصالح، وعدم سماح نفسه بإدارة عقله لعمل النقلة النوعيّة لتوجيه عقله إلى التركيز على رسالته لبناء ذاته، بعد موازنة ما مرّ به من تجارب وأحداث وأشخاص، لأن الحياة معادلة لها وجهان السلب والإيجاب.

إنّ إدراك ما سبق يحقّق التوازن الذي هو الشفاء، هنا يتجلّى الفرق ما بين المعرفة والإدراك الطبّي، فرحلة الطب جزء من الرحلة الإنسانية، فقد بدأ بعلاج الجسم منذ الحضارات القديمة حتى وصل إلى محطّة الأمراض السيكوماتيّة، غير واضحة الجذور النفسية المسببّة للمرض، وهنا نحن الآن نتبصّر في تلك الجذور التي انكشفت أخيرا لتتضح أنها جذور روحيّة لأنّ روح الإنسان تكون غير مفعّلة لشفرتها الكامنة بالعمل الصالح في مجال ما، فأصيبت تلك الروح بالمرض، فمرض الجسد الحامل لها، دعوة لمن لديه قيمة شفائيّة من الأطبّاء الملهمين إلى التبصّر والتكامل.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية