العدد 4460
الأربعاء 30 ديسمبر 2020
banner
عمود أكاديمي د. باقر النجار
د. باقر النجار
أميركا بعد ترامب
الأربعاء 30 ديسمبر 2020

لم تكن السنوات الأربع من حكم الرئيس الأميركي دوناد ترامب المنتهية ولايته، سنوات عادية على الولايات المتحدة الأميركية. فقد قادت إلى مجموعة من الفوضى على صعيد الخارج كما هي قد قادت إلى تحولات عميقة وارتدادات كبيرة على صعيد الداخل الأميركي. وقد يكون صحيحا أنه قد استطاع أن يٌخفض من معدلات البطالة بشكل كبير لحوالي 3.5 %، حتى قبل الجائحة، وهو معدل لم تصله الولايات المتحدة الأميركية لأكثر من خمسة عقود خلت. وهي معدات لم يستطع أي من الرؤساء السابقين الخمسة أو الستة السابقين، على الاقل، الوصول إليها. إلا أنه وفي ذات الوقت قد أحدث قدرا كبيرا من الأثر في إدارة الدولة المجتمع الأميركي. وهي مصاحبات قد يبقى بعضها لسنوات قادمة قد تتجاوز خلافة بايدن الأولى.

فإدارته لجهاز الدولة ومؤسساتها، قد اعتمد وبشكل كبير على الذاتية واللا مؤسساتية و لربما المزاجية والنرجسية المفرطة، وهي مزاجية أو ذاتية قد حكمت علاقته بكل طاقم الإدارة الكبار أو في الصدارة. الأمر الذي لم يستطع البعض منهم الأستمرار ففضل الاستقالة على أن يُقال. وكان آخرهم وزير العدل الأميركي وليم بار الذي لم يستطع الرئيس تحمل قوله بعدم وجود “ما يثب من عملية التزوير على نطاق واسع” فأجبر على الاستقاله ولم تشفع له سنوات خدمته السابقة للرئيس الأميركي. وهو بخلاف كل الرؤساء السابقين قد وظف حسابه على وسائل الاتصال الاجتماعي في التعبير عن سياساته أو قراراته أو في أوامره بإقالة أحد كبار وزرائه أو أحد موظفي الدولة الكبار. فهكذا قد تم إقالة وزير الخارجية السابق ريكس تلرسون، والذي قال إنه علم عن خبر إقالته وتعيين بومبيو بديلا عنه، من تغريدة الرئيس والذي قال عنه إنه “سيؤدي عملا رائعا”. وهكذا قد تمت إقالة وزير العدل الاسبق جيف سيشنز لفشله في أن يقوم بعرقلة تحقيقات ملر حول التدخلات الروسية في انتخابات عام 2016. وهكذا كذلك قد تمت إقالة وزير دفاعة السابق مارك اسبر، لرفضه كما تقول نيويورك تايمز “بالإعداد لهجوم جوي على طهران”، وهكذا كذلك قد تمت إقالة مستشار الأمن القومي جون بولتون وهكذا كذلك قد تم إقالة الكثير من كبار موظفي البيت الأبيض.. إلا أنه بالمقابل أجبر البعض من كبار الوزراء على تقديم استقالاتهم وهو الامر الذي كان قد حدث مع وزير دفاعه السابق جيمس ماتيس وذلك كما يقول ترامب..”لوجود اختلافات عميقة في رسم السياسات” ووزير العدل المستقيل حديثا وليم بار لقوله “أنه لا توجد أدلة على تزوير واسع النطاق في الانتخابات الرئاسية التي جرت في نوفمبر الماضي”. وقد كان قد لوح بإقالة مدير المعهد الوطني للحساسية والامراض المعدية، أنتوني فاوتسي في نقضه لكل ما يروج له ترامب حول كوفيد 19 و التي كانت تقلل من خطورة الفايروس، ورفضه للكثير من الاجراءات الهادفة لاحتواء الفايروس.. وهكذا فصل مدير الامن الالكتروني وأمن البنية التحتية كريس كريبس لقوله “أن الانتخابات هي الأكثر تأمينا في تاريخ انتخابات الولايات المتحدة”.

من الناحية الأخرى فقد ساهم الرئيس ترامب في ادعائه الدائم من وجود حالات تزوير و مخالفات انتخابية على نطاق واسع، من خلق نوع من الإرباك ولربما التجييش لقطاع ليس بصغير من مؤيديه لاتخاذ مواقف قد تكون خارجة عن العرف السائد فيما يتعلق بالادارة القادمة، لاعتقاده من كونها إدارة غير شرعية. وتأتي هذه المحاولات لخلخلة الشرعية التي يكتسبها صندوق الاقتراع في الانتخابات الاميركية. وهي نتائج لا يمكن العدول عنها، وهذا يفسر سرعة الاتصال الذي تم بين زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل بالرئيس المنتخب بعيد تصويت المجمع الانتخابي في الاسبوع الماضي والذي حاز فيه بايدن على ما يقارل من 306 من أصوات المجمع الانتخابي.. وقد لا تخرج محاولات ترامب هذه في إحداث شرخ في شرعية الانتخابات عن نزعته لإعطاء صورة الرجل القوي في أوساط الحزب الجمهوري، تمهيدا أو استعدادا كما يقول البعض لانتخابات عام 2024. وقد لعبت النخب السياسية الاميركية على مدى العقود الماضية في خلق حالة التشويش هذه. وهو تحد إما أنه قد يدفع نحو حالة من حالات الفوضى أو لحالة تأخذ بقدر من العقلانية في تعاطيها مع نتائج الانتخابات الاخيرة، بل في التعاطي معها باعتبار أنها تمثل خطوة مهمة لإصلاح حالة المجتمع الاميركي الذي بات منقسما على نفسه بشكل كبير وباتت عملياته الانتخابية بحاجة لمراجعة في أدواتها وفي تقسيماتها ولربما في الطريقة التي بها يتم تقرير الفائز من المرشحين.

من الناحية الأخرى فإننا بتنا نشهد ولأول مرة في نهاية عهد الرئيس الأميركي المنتهية ولايته، حالة من استصدار مجموعة كبيرة من قرارات العفو الخاصة بالمقربين منه، ممن أصدر بحقهم أحكام قضائية، أو في استصدار قرارات على مستوى الداخل والخارج بالصورة التي يمكن أن تربك الرئيس القادم للبيت الابيض. وقد يحتاج الرئيس الجديد للكثير من الوقت والجهد لتجاوز المشكلات المستزرعة في عهد الرئيس ترامب. إذ ستبقى الكثير من سياسات الرئيس المنتهية رئاسته ذات تأثير قد يغطي المرحلة الاولى من رئاسة الرئيس القادم جو بايدن. وقد يحتاج الرئيس للكثير من الوقت، ولربما جل مرحلة رئاسته الاولى لإعادة الاعتبار للادارة القائمة والتخفيف من عمق الانقسامات الاجتماعية و السياسية القائمة في المجتمع الاميركي..

أما التأثير الأخر المهم، وهو الذي تم الحديث عنه بشكل واسع من قبل الكثير من الكتاب، والذي في ضوئه لازال البعض من الكتاب المتشائمين يبنون توقعاتهم من أن الانقسام الكبير القائم بين البيض والجماعات الأثنية والعرقية الأخرى وتحديدا السود ستقود إلى شكل من أشكال الحرب الاهلية التي ستقود إلى انهيار المجتمع الاميركي. وهو انقسام قد لا يكون سببه الاساسي الرئيس الاميركي دونالد ترامب، وإنما تعود لأسباب تاريخية وأخرى بنيوية وممارسات مأسساتية خلقت وعلى مر الزمن حالة من حالات الانقسام الذي لم يخفف منه وصول باراك أوباما كرئيس للدولة قبل أربع سنوات.. ومع ذلك فإن الكثير من سياساته وممارساته ولربما لنقٌل خطابه السياسي قد ساهم في تعميق حالة الانقسام هذه. وكما قال الرئيس الاميركي السابق أوباما.. فإن “الانقسام في المجتمع الاميركي كان قائما في سنوات رئاستي، الا أن الرئيس الاميركي ترامب قد ساهم في تعميقها”. وهو انقسام يعتقد البعض قد يكون مدخلا لحرب أهلية، إلا أن الاشتباكات التي جاءت بين السود والبيض ومحاولات الدهس التي تعرض لها بعض السود يعكس وبشكل واضح درجة الانقسام هذه والذي جاء في بعضه كنتيجة لطبيعة الخطاب الشعبوي الذي تميز به ترامب وهو خطاب ساهم في شحن بعض جماعات البيض المتطرفة من السود والهسبانك والجماعات العرقية الاخرى.

بالإضافة لذلك فإن المجتمع الاميركي قد شهد، خلال السنوات القليلة الماضية، قدرا من الفرز الاجتماعي المتصاعد بين الفقراء والاغنياء: فدرجة الغنى تتعاظم عند البعض مقابل اتساع دائرة الفقر عند البعض الكثير الآخر والذي تصاعدت معدلاته مؤخرا بفعل جائحة كورونا. بل إن بعض التقديرات تذهب إلى أن هناك أكثر من خمسين مليون أميركي قد باتوا يعتمدون وبشكل كبير على الاعانات التي تقدمها لهم الجمعيات الخيرية. وأن جائحة كورونا قد أخرجت الملايين من الاميركيين من خارج دائرة العمل، إذ قدرة معدلات البطالة فيها في شهر سبتمر الماضي بحوالي 14.7 %. وهو خروج قد تعني بعض مصاحباته الدخول في دائرة الفقر وتصاعد في المشكلات الاجتماعية التي من بينها الجريمة والطلاق والعنف بشكل عام. ونعتقد أن أحد مصاحبات البطالة والفقر قد تكون أزمة العلاقات العرقية بين السود والبيض قي المجتمع، وهي أزمة وصلت في اوجها أبان مقتل جورج فلويد على يد شرطي ابيض،وهي حادثة قد يكون قد سبقتها وأعقبتها الكثيرمن الحوادث العنصرية المماثلة. إلا انها حادثة قد أخرجت ملايين من السود والبيض مطالبين بعدالة أكبر وأوسع للسود في المجتمع الاميركي. وليس جديدا القول أن أزمة جائحة كورونا قد عاظمت من معدلات الفقر داخل المجتمع الاميركي، كما عبرت في جوانب أخرى عن المأزق الاجتماعي القائم. فانتشار الجائحة في أوساط السود والهسبنك هي أكثر منها في أوساط البيض، كما أن حالات الوفاة في أوساطهم هي الاعلى مقارنة بحجم الاصابات في اوساط الجماعات العرقية والاثنية الاخرى.

وتذهب بعض الاقلام الاميركية للقول أن وصول ترامب للبيت الابيض قد عمق من حالة الانقسام القائمة بين الحزبين الرئيسين في الدولة الاميركية. وهو انقسام قد يكون قائما قبل وصوله للبيت الابيض، إلا أن وصوله لرأس الدولة وهجومه المستمر على الحزب الديموقراطي ووصفه الدائم له بكونه حزبا شيوعيا متطرفا قد خلق عند البعض حالة من العداء له وليس الاختلاف.. ويبرز هذا الاختلاف و على غير العادة في تلكؤ الاغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ، اولا في الاقرار بفوز المرشح جو بايدن في الانتخابات بل وفي تأخرهم في تهنئته بذلك، الامر الذي يفسره البعض في السطوة التي بات ترامب يمتلكها داخل الحزب الجمهوري رغم حداثة خبرته بالعمل السياسي من ناحية وحداثة عضويته في الحزب. بل أن البعض يعتقد أن درجة الخلاف بينهما لم تصل لهذا المستوى في ظل أي رئيس جمهوري سابق.

وخلاصة القول فإن السنوات الاربع الماضية من حكم الرئيس الاميركي ترامب لم تكن سنوات عادية. فبقدر ما أحدث حالة من الفوضى في العلاقات الدولية بقدر ما أصابت سياساته في الداخل شرخا بنيويا في المجتمع الاميركي، تجاوزه يتطلب حالة سياسية جديدة للنخب السياسية الحاكمة. لا تتعلق فقط بالدولة الاميركية فحسب وحسابات الخارج وإنما تعلق ولربما تتعلق بصورة أكبر في القجرة على رسم استراتيجيات جديدة للدمج و بناءات الثقة والعدالة الاجتماعية داخل المجتمع الاميركي بين جماعاته العرقية و الاثنية المختلفة وبين أحزابه المتصارعة والقدرة على ضبط الاختلاف في مؤسساته التشريعية القائمة وليس بنقله للشارع.. فانفلات الشارع عقد يصيب الدولة بعطب كما قد يصيب المجتمع بقدر ليس ببسيط من الصدع.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية