+A
A-

ثوب النشل.. للكاتبة البحرينية فاطمة النهام

في ظهيرة أحد الأيام الحارة، جلست (لولوة) في حوش البيت، لتغسل الملابس في حوض ضخم، تارة تصب الماء القذر على الأرض، وتارة تخطو إلى «الجليب» لتأتي بالماء وتصبه مجدداً في حوض الغسيل، أخذت تنفض الملابس وتنشرها على الحبل.

كان الجو يزداد حرارة، وهي منهمكة في عملها، والعرق يتصبب من جبينها بغزارة. راحت تنثر الحبوب على الأرض لتطعم الدجاجات التي كانت تتقافز حولها بجنون، بعدها خطت إلى سقيفتها لتبدأ بتحضير وجبة الغداء.

شرعت تقطع البصل وتدق الثوم ثم ترميهما في القدر، رشت الخليط بالفلفل الأسود، وقلبتهم بسرعة، ولم تمر ثوانٍ حتى تصاعدت أبخرة حمصة الطعام لتفوح عبقًا بالمكان، ملأت ملابسها وشعرها برائحتها المميزة، مسحت دموعها بكم جلابيتها، وهي تسمع صياح أطفالها وهم يلعبون ويتشاجرون في الحوش.

اعتادت في نهاية كل نهار أن تستقبل زوجها (مبارك) حينما يعود إلى البيت منهكًا من العمل، حاملاً معه أسطل الأصباغ. يتنقل من بيت إلى آخر في بيوت الحي ليصبغ جدرانها ويقبض مالاً زهيدًا، ثم يعود إليها ليطلي قلبها الواهن بعبارات قاسية، وليصم أذنيها بصوته المزعج الهادر. كانت تتمنى أن يكون حنونًا ورقيقًا وبلسمًا شافيًا لروحها المنهكة من هموم الحياة. لقد تزوجته منذ خمسة عشر عاماً، وكانت ثمرة هذا الزواج أطفالها الستة. كان مهرها تافهاً، وحفلة زواجها لا تذكر.

أدركت (لولوة) جيدًا بأن والدها كان يحمل عبء مسؤوليتها وأخواتها الثماني، كم كن ثقيلات على قلبه، في مجتمع يحكمه الذكر، وتعتبر الأنثى همًا وغمًا وحملاً كبيرًا على كاهل الأب، ومنذ أن يأتي الطالب ليدق باب البيت، تحل لحظة السعادة والنور.. بل لحظة الفكاك والخلاص. لم تكن ترغب بالزواج منه، لأنه يكبرها بعشرين عامًا، لم ترتح أبدًا من نظراته الزائغة نحوها، كانت تدرك جيدًا بأنه ليس الفتى الذي تتمناه، لقد دفنت شبابها وأحلامها معه، وكفى.

لقد رفضت الزواج منه بإصرار.. بكت كثيرًا، وأضربت عن الطعام، لكنها تتذكر جيدًا صفعة والدها القوية التي هوت على وجهها. كانت الصفعة الأولى لبداية رحلة شقائها الأبدية، أدركت حينها أنها ستتزوج هذا الفارس القادم.. شاءت أم أبت.

كانت (لولوة) هي الأقل حظًا من بين صديقاتها. لماذا لم تتزوج ابن النوخذة! أو ابن التاجر (صالح)؟! ألم يكن يليق بها أن تعيش حياة الرغد والدلال، وهي ذات البشرة البيضاء المتوردة، كحلاء العينين، طويلة الشعر، رشيقة القوام؟! أدركت حينها بأن جمالها قد دفن إلى الأبد في قبر هذا الزواج.

قطع حبل أفكارها ابنها الصغير الذي جاء يركض إليها. «يمّه.. أنا يوعان»، فأجابته:

 «إن شا الله يمّه.. شوي ويجهز الغدا»، بدأت بغسل الدجاجة وتقطيعها، ثم رمتها بالقدر وقلبتها.

وضعت (لولوة) صينية الرز والدجاج أمام أطفالها ليتحلقوا حولها ويتناولوا الطعام بنهم. دخل زوجها إلى المكان، وأقفل باب البيت خلفه بعنف، وضع سطلي الصبغ جانبًا وهو يزفر، اقتربت منه وقالت: 

«حيّا الله بو عيسى.. أصخن لك الماي تتسبح؟»

 رمقها قائلاً بغلظة: «يا الله.. بسرعة»، ذهبت لتحضير الحمام. وبعد أن أستحم، توجه لسفرة الطعام، وتربع: «يا الله».

 أخذ يتناول الطعام بشراهة، وهو ينظر إليها بين الحين والآخر، ثم قال: «رفيجي بالشغل (جاسم).. تعرفين مرته (حصة)؟»، قالت: «أي.. اشفيها؟»،

فأجاب::

 «ولا شي.. بياخذ مرة على راسها.. هالأسبوع عرسه»، 

هتفت: 

«ليش!»، 

فقال: «شنو ليش.. زواج على سنة الله ورسوله.. المرة كبرت.. ما منها فايدة.. لا صحة.. ولا جمال»

انقبض قلب (لولوة) وشعرت بالحسرة على صديقتها، كما شعرت بنفس الشيء على نفسها. تنهدت بحرقة وأخذت تتحدث في أعماقها: «حسرة عليج يا خويتي.. رياييل مالهم أمان! خذاج لحم ورماج عظم.. ومب بعيد علي آنه نفس الحال».

واصل تناول الطعام وهو يحدق إليها بسخرية، وكأنه يقرأ أفكارها. قهقه ضاحكاً وهو ينهض من مكانه، ثم دخل إلى الغرفة ليدفع الباب خلفه بعنف، وبعد ثوانٍ تعالى صوت شخيره.

توجهت إلى أطفالها وقالت لهم:

«يا الله يمّه.. روحوا حجرتكم لعبوا.. أبي أخم الحوش»

بعد أن تأكدت بأن أطفالها قد ذهبوا إلى حجرتهم، دخلت غرفة نومها على أطراف أصابعها بخفة، وكأنها لصة. وقفت لبرهة أمام المرآة، خاطبت نفسها.. منذ زمن طويل لم تستخدم الخنة، أو ترتديٍ جلابية جديدة، أخذتها مشاغل البيت من أن تضع نقوش الحناء على كفيها، أو ترسم الكحل بعينيها.

خطت نحو سريرها بهدوء، وشخير زوجها لا يزال يتعالى، سحبت الصندوق المبيت من تحته، وفتحته برفق، وجدت ثوب النشل مطويًا في الصندوق، كانت المرة الأولى والوحيدة الذي ارتدت فيه هذا الثوب، في ليلة عرسها. لقد تبخرت منه رائحة البخور والعود والمشموم، تمامًا كما تبخرت سعادتها وأحلامها. سحبت الثوب خارجًا وجلست في الحوش، بعد أن أحضرت مقصًا كبيرًا ثم شرعت بتقطيعه!

جمعت القطع الممزقة في حضنها لترفع جلابيتها متوجهة خارج البيت. وخلال دقائق، وجدت نفسها تقف أمام شاطئ البحر الذي كانت تندفع أمواجه أمامها ثم تتراجع للوراء. وفي لحظة، نفضت جلابيتها، لتجد خرق ثوب النشل تتساقط عند الشاطئ، لتسحبها الأمواج بعيدًا، ومنها طارت أدراج الرياح.

"اللوحة التعبيرية للقصة بريشة الفنانة الشابة أمل"