العدد 4590
الأحد 09 مايو 2021
banner
بين مدارس التفكير ومدارس التكفير.. وقضايا النزاهة والتعليم
الأحد 09 مايو 2021

كنت بمعيّة رئيس الوزراء المغفور له صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة طيب الله ثراه، في أحد لقاءاته الخاصة بمؤسّس ورئيس وزراء سنغافورة الراحل (لي كوان يو)، وقتها كان لي كوان يو قد ترك مناصبه الرسمية بعد أن بقي رئيسًا للوزراء لمدة تزيد على 31 عامًا، وأصبح بعدها رئيسًا شرفيًّا للدولة وحكيمها بعد أن كان حاكمها، وبقيت له في بلاده وعلى مستوى العالم سمعة ومكانة سياسية مرموقة إلى أن فارق الحياة في العام 2015.

وقد كان معظم الحديث في ذلك اللقاء يدور حول تمكّن لي كوان يو من تحقيق “معجزة سنغافورة”، وأسباب نجاح وتفوق هذه الجزيرة الصغيرة وتحولها من تجمع للمستنقعات الآسنة الراكدة إلى دولة عصرية متقدمه تنبض بالحركة والنشاط، وكانت خلاصة ما قاله الرئيس السنغافوري أن من أهم تلك الأسباب الحرص الصارم على وضع الشخص المناسب في المكان المناسب بناءً على الجدارة والاستحقاق دون النظر إلى أية اعتبارات أخرى، ويطبق هذا المبدأ ابتداء من القمة، وفوق كراسي مجلس الوزراء؛ حيث يتم اختيار أفضل وأكفأ وأنزه العناصر، يتم استقطابهم وإغراؤهم بأعلى المزايا والمرتبات، وتبقى نزاهة الشخص عنصرًا أساسيًّا لا يخضع للمرونة ولا يقبل المساومة أو التساهل، ويتم ترسيخ قيم النزاهة عند الوزير بتسكينه ماديًّا، وبهذا الشأن قال (لي كوان يو): “نحن نكافئهم ماليًّا بسخاء بما يعادل أربعة أضعاف ما تدفعونه وتدفعه معظم الدول الغنية لوزرائها”، أي أنه بعد التأكد من تحصن الشخص المرشح أخلاقيًّا وقيميًّا يتم تحصينه ماديًّا أيضًا بهدف حمايته من غواية وجريمة الفساد ومد اليد أو السطو على المال العام أو قبول الرشوة، وإذا حدث ذلك ولو في أدنى مستوى وأتفه المبالغ فإن المتورط يصبح مجرمًا بامتياز، ويلقى أشد وأقسى وأقصى عقاب دون شفقة أو رحمة؛ لذلك أصبحت سنغافورة حتى اليوم مضرب المثل في النزاهة والنظام والكفاءة.

ثم يأتي في أعلى سلّم الأولوية ثلاثة وزارات أو مواقع حساسة ومحورية ضمن الأجهزة التنفيذية، وكنت أظن أن المقصود وزارات الدفاع والداخلية والمالية أو الخارجية، لكن ظني لم يكن صائبًا، فالوزارات أو المواقع المعنية هي القضاء والتعليم والصحة، حيث يتم الإنفاق بسخاء، وتدفع أعلى المرتبات الشهرية للقضاة في كل المحاكم وعلى كافة درجات التقاضي؛ وذلك لضمان استقطاب والحصول على الأكفأ والأفضل، ولضمان نزاهة وعدالة القضاء، إذ لا يمكن تحقيق التطور والنمو في غياب قضاء نزيه عادل، واليوم فإن التجربة السنغافورية تعتبر من التجارب الدولية الناجحة في مجال الإصلاح القضائي، وما تزال سنغافورة تتمتع بسمعة طيبة في النزاهة والحياد في القانون التجاري، وأصبح اختصاصها القضائي شائعًا للتحكيم والمحاكمة في جنوب شرق آسيا.

وكذلك الحال بالنسبة للقطاع الطبي؛ هنا أيضًا تنفق حكومة سنغافورة بسخاء في توفير المرافق العلاجية والبحثية الطبية، وتعمل على ضمان إعداد وتهيئة واستيعاب أفضل الكوادر والكفاءات من الأطباء والعاملين في القطاع الصحي لضمان توفير أفضل الخدمات الطبية في مراحل الوقاية والعلاج، فصحة الأمة هي سبيل تطورها، واليوم، وحسب التقارير الأخيرة لمنظمة الصحة العالمية فإن سنغافورة تحتل المرتبة السادسة من بين 190 دولة من ناحية الخدمات الصحية المقدمة، ومن بين أكثر دول العالم تطورًا في مجال العناية الصحية والسياحة العلاجية.

وعندما وصل الحديث في ذلك اللقاء إلى التعليم صمت لي كوان يو قليلًا ثم قال Education is the foundation of everything، أي أن التعليم هو الأساس أو القاعدة لكل شيء، وعلى هذا الأساس حرص لي كوان يو على ضمان جودة التعليم منذ البداية، ونجح في تطوير نظام تعليمي يعتبر أرقى أنظمة التعليم في العالم بلا منازع، واليوم فإن “مؤشر دافوس العالمي حول التعليم للعام 2021” وهو مؤشر موثوق معتبر صادر ﻋﻦ اﻟﻤﻨﺘﺪى اﻻﻗﺘﺼﺎدي اﻟﻌﺎﻟﻤﻲ ﻓﻲ داﻓﻮس، وقد رصد وقاس هذا المؤشر جودة التعليم في 140 دولة في العالم، ووضع سنغافورة في المرتبة الأولى على رأس هذه الدول مجتمعة.

وقد أكد تقرير مؤشر دافوس “أن ﺳﻨﻐﺎﻓﻮرة ﺗﻤﺜﻞ ﻧﻤﻮذجًا فذًّا لتجربة نهضة أﻣﺔ، ﻓﻔﻲ أﻗﻞ ﻣﻦ 50 ﻋﺎﻣًﺎ ﺗﺤﻮﻟﺖ ﻣﻦ ﺟﺰﻳﺮة ﻓﻘﻴﺮة تقطنها ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ أﻣﻴّﺔ ﻣﻦ اﻟﺴﻜﺎن إﻟﻰ دوﻟﺔ ﺻﻨﺎﻋﻴﺔ ﻣﺘﻘﺪﻣﺔ ﺗﻀﺎﻫﻲ ﻣﺴﺘﻮﻳﺎت معيشتها نظيراتها في الدول الصناعية الأكثر تطورًا، فقد فطن رئيس الوزراء لي كوان يو حقيقة أن اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ عامل حاسم في تطوير القوى العاملة لتحقيق الأهداف الاقتصادية، ولعبت الحاجات الاقتصادية في سنغافورة دورًا مهمًّا في تحديد معالم سياسة التعليم”.

وفي الوقت الذي كنا فيه، في العالم العربي والإسلامي، وما نزال، مشغولين بتأسيس ودعم مدارس التكفير، كانت سنغافورة قد أﻃﻠﻘﺖ في العام 1997 ﻣﺒﺎدرة «ﻣﺪارس اﻟﺘﻔﻜﻴﺮ، ﺗﻌﻠﻢ اﻷﻣﺔ» وكانت ﻗﺎﺋﻤﺔ ﻋﻠﻰ أرﺑﻌﺔ ﻣﺒﺎدئ: دفع أجور مجزية للمدرسين لاستقطاب أفضل العناصر، وإعطاء إدارات المدارس مزيدًا من الاستقلالية، وإلغاء التفتيش واستحداث التميز المدرسي، وﺗﻘﺴﻴﻢ اﻟﻤﺪارس ﻟﻤﺠﻤﻮﻋﺎت ﻳﺸﺮف ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻮﺟﻬﻮن ﻣﺨﺘﺼﻮن لتمكينهم ﻣﻦ اﻟﺘﻄﻮﻳﺮ واﺳﺘﺤﺪاث ﺑﺮاﻣﺞ ﺟﺪﻳﺪة.

ثم أطلقت سنغافورة مبادرة جديدة وهي مبادرة “تعليم أقل.. تعلم أكثر” ركّزت من خلالها على أساليب التدريس وتقليل حجم المحتوى لإفساح المجال للتفكير.

ولذلك، فليس مستغربًا أن يكشف مؤشر دافوس عن تدني ترتيب أغلب الدول العربية في مجال جودة التعليم، فالمرتبة الأولى في العالم حصدتها سنغافورة كما ذكرنا، ثم تلتها سويسرا، وفي المرتبة الثالثة فنلندا، ودولة قطر رابعًا، وﺣﻠﺖ اﻟﻮﻻﻳﺎت اﻟﻤﺘﺤﺪة اﻷميركية ﻓﻲ اﻟﻤﺮﺗﺒﺔ 18، قبلها كانت الدنمارك وبعدها السويد، فيما صنفت ألمانيا في المرتبة 20، وجاءت فرنسا في المرتبة 22، واليابان في المرتبة 31 متبوعة بأستراليا، فيما حلت أسبانيا في المرتبة 47، وجاءت تركيا في المرتبة 95.

أما بالنسبة لتصنيف الدول العربية فقد جاءت دولة قطر الأولى عربيًّا والرابعة عالميًا، تلتها الإمارات العربية المتحدة في المرتبة العاشرة، ولبنان في المرتبة 25، ثم البحرين في المرتبة 33، فالأردن في المرتبة 45، والمملكة العربية السعودية في المرتبة 54 من بين 140 دولة شملها مؤشر الجودة، فيما احتلت مصر المرتبة 139، وهو المركز قبل الأخير، وقد اعتبر المؤشر كلًا من ليبيا والسودان وسوريا والعراق واليمن والصومال دولاً غير مصنفة، لأنها دول لا تتوفر فيها أبسط معايير الجودة في التعليم.

كنا نود أن نقول رحم الله لي كوان يو، لولا أنهم قالوا لنا بأن الترحم لا يجوز إلا على المسلم من أمثال صدام حسين والقذافي وعلي صالح ومن في شاكلتهم، إنا لله وإنا إليه راجعون.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية