العدد 4618
الأحد 06 يونيو 2021
banner
الخامس من يونيو/‏ حزيران 1967
الأحد 06 يونيو 2021

بالأمس، 5 يونيو/‏ حزيران انطوت، بكل سكينة وهدوء 54 عامًا على نشوب حرب (الأيام الستة) التي شكلت صدمة موجعة وانتكاسة تاريخية مقعدة بالنسبة للعرب بصورة عامة وللفلسطينيين خاصة، وكانت بمثابة المنعطف المصيري الحاد في الصراع العربي الإسرائيلي الذي أدى إلى إضعاف الموقف العربي وتغيير وجه المنطقة بأسرها، وخلق واقع جديد مختلف ما تزال المنطقة تعاني من إرهاصاته وتبعاته وتداعياته، وما يزال العالم العربي يدفع له ثمنه باهظًا حتى الآن.


ولا أعتقد أن أجيال اليوم من شباب العرب والمسلمين، ناهيك عن أجيال الغد، تستطيع أن تستوعب أو تصدق بأن إسرائيل، تلك الدولة الصغيرة، أو ما نسميها بالكيان الصهيوني، تمكنت خلال 6 أيام فقط، من الانتصار على 3 دول عربية، وهزيمة جيوشها على 3 محاور قتالية، وتمكنت من اجتياح واحتلال قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء ووصلت إلى ضفاف قناة السويس، واحتلت الجولان السورية، والضفة الغربية بما في ذلك مدينة القدس الشرقية أو القدس القديمة التي تضم المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، والتي يعتبر اليهود العودة إليها من أغلى تطلعاتهم وأقدس أحلامهم ومروياتهم، حدث ذلك بعد أن نجحت إسرائيل في تدمير السلاح الجوي لهذه الدول خلال الساعات الثلاث الأولى من بدء المعارك، وتدمير 80 % من العتاد العسكري لهذه الدول بنهاية اليوم السادس لتلك الحرب؛ وهو حدث لم يشهد التاريخ مثيلًا أو مشابهًا له لا من قبل ولا من بعد؛ في تلك الحرب تمكنت إسرائيل من توسيع رقعتها الجغرافية لخمسة أضعاف.


وإلى جانب خسائر العرب الكارثية لهذا الكم الهائل من الأراضي والأسلحة والممتلكات وغيرها من الخسائر المادية الكبرى، فقد كانت الخسائر المعنوية مدمرة أحدثت جروحًا عميقة في كبرياء العرب وكرامتهم، وسببت الإحباط والانهيار لمعنويات الشعوب والنخب العربية، كما راح ضحية هذه الحرب ما بين 15 و25 ألف قتيل أو شهيد، إلى جانب أعداد هائلة من الجرحى والأسرى، ولا نفهم بهذا الصدد معنى هذا التفاوت الصارخ في تقدير عدد القتلى وعدم تحديد العدد الحقيقي لهم! وهو أمر سهل يتم التوصل إليه من خلال خصم عدد من عاد سالمًا من الجبهات بعد توقف المعارك من عدد من أرسلوا إليها في بداية الحرب. إن هذا التراخي والتغاضي عن تحديد العدد الحقيقي للشهداء إنما يمثل انعكاسا واضحا لمقدار التساهل والاستهتار برجال بذلوا مهجهم وقدموا أرواحهم فداء لأوطانهم! وفي حين أطلقت أسماء القادة والزعماء العرب المهزومين الذين تسببوا في تلك الكارثة على الشوارع والميادين في بلدانهم وفي الدول العربية الأخرى، وهيأت لهم الأضرحة والقبور الفارهة، وأقيمت لهم التماثيل فإننا لا نجد من النصب التذكارية ما يليق بذكرى هؤلاء الشهداء والضحايا، إن الواجب الوطني وقيم الوفاء والعرفان كانت وما تزال تحتم إقامة نصب تذكاري ضخم في سيناء في الموقع الذي سالت فيه دماؤهم الطاهرة يكون في حجم ووجاهة وهيبة الأهرامات؛ تنقش عليها اسم كل واحد منهم كما فعل المصريون القدماء عندما حفروا أسماء ملوكهم ووجهائهم على الصخور وجدران المدافن والمعابد، كما يجب أن تقام نصب تذكارية مشابهة في فلسطين وسوريا والأردن وحتى في باقي الدول العربية.


وإلى جانب ذلك، وكما ذكرت في البداية، فإن ذكرى هذه الكارثة مرت بالأمس بكل سكينة وهدوء! وكأن العقل العربي والذاكرة العربية مطلوب منهما النسيان، نسيان هذا التاريخ، ونسيان هذا الحدث الجلل، وغض الطرف عن تلك الهزيمة النكراء؛ حتى لا ترتفع الأصوات المطالبة بمحاسبة ومحاكمة المتسببين بها، وحتى نظل نمجدهم ونعظم أسماءهم كأبطال منتصرين.


ولقد منحتني الظروف لأكثر من مرة فرصة حضور احتفالات التخرج لمنتسبي كلية سانت هيرست البريطانية العسكرية العريقة، وفي إحدى تلك المناسبات وعلى مدرجات الضيوف جلس إلى جانبي والد أحد الخريجين البريطانيين، وهو أيضًا كان من خريجي الكلية ذاتها، وأصبح ضابطًا في الجيش البريطاني قبل تقاعده، وتطرق الحديث الطويل الذي دار بيننا، من بين أمور أخرى، إلى حرب الأيام الستة وقال إنها أصبحت من المواد الأساسية التي يتم تدريسها في الكليات العسكرية، وهي حرب ارتكبت فيها من الجانب العربي أخطاء في غاية السخف وحماقات عسكرية مروعة لا يمكن لأي كان أن يتصور أن أحدًا يمكن أن يرتكبها، وبذلك فإن تلك الحرب كانت من بين أفدح ولكن من أقصر الحروب التي لم تقدم للعلوم العسكرية أية إضافات أو دروسًا أو عبرًا جديدة.


وعندما ندعو إلى إحياء هذه الذكرى كل عام وبشكل لائق محسوس فإننا لا نهدف إلى نكء الجروح، أو جلد الذات ولطم الصدور، أو البكاء على اللبن المسكوب، بل لأن الأمم الواعية تصر وتحرص كل الحرص على الاحتفاء بتجاربها واستعادة ذكراها وإبقائها حاضرة في وجدانها وضمائرها، والاستفادة من دروسها وعبرها ولضمان تلافي وتجنب تكرار ارتكاب الأخطاء ذاتها.


ومن هذا المنطلق فإننا نود التوقف أو الإشارة بشكل عابر إلى واحد فقط من أهم أوجه التقصير وأبرز الأخطاء التي ساهمت بشكل كبير في حدوث تلك الهزيمة أو كما سميت إعلاميًا بـ “النكسة”؛ وهو الإخفاق في استعمال السلاح الإعلامي في تلك الحرب، أو بالأحرى إساءة استعماله، وهو سلاح قد يفوق من حيث الأهمية السلاح التقليدي إذا تم توظيفه و تجنيده والاستفادة منه إلى أقصى حدوده.


فالحروب تخاض على جبهتين متوازيتين؛ واحدة للمعارك العسكرية والأخرى للمعارك الإعلامية أو ما يسمى بالحرب الإعلامية أو الحرب النفسية، فالإعلام كان وسيظل سلاحا له دور فاعل في توجيه الحروب وتحقيق نتائجها، وبذلك أصبحت العدة الإعلامية من أهم التجهيزات والأسلحة المستخدمة في الحروب، وأصبح بشكل متعاظم تحديد الاستراتيجية الإعلامية يأتي في مقدمة الخطط الحربية.


والحرب الإعلامية بدورها تنطلق على محورين الأول يهدف إلى الوصول والتأثير على نفسية العدو وإرباكها، وهو ما يبرر بث الشائعات والأخبار التي تدخل الخوف والرعب في صفوف الأعداء. كما يهدف إلى تشكيل أو حشد رأي عام ضاغط في صفوف العدو أولًا ثم في صفوف المجتمع الدولي لكسب تأييده وتعاطفه، ولكن الأهم من ذلك هو المحور الثاني الموجه إلى الداخل والذي يهدف إلى تهيئة وتعبئة الجماهير واستنهاض وشحذ هممها.


وفي كل الأحوال فإن تحقيق كل هذه الأهداف يتطلب الحرص على عنصر الإقناع المبني على الشفافية والمصداقية وليس التمويه والكذب والتضليل، لقد كان “غوبلز” وزير هتلر للدعاية والإعلام من أبطال مدرسة الكذب والخداع والتضليل الإعلامي، وكان ينصح هتلر بأن “اكذب اكذب حتى يصدقك الناس بل تصدق نفسك” وكانت هذه النصيحة من بين أهم أسباب هزيمة هتلر في الحرب العالمية الثانية.


في جمهوريات الانقلابات العسكرية العربية تم تحوير وتحويل الوظيفة الأساسية للآليات والمنابر الإعلامية إلى إبراز وتلميع صورة القادة وتأييد وتبرير سياسات الأنظمة الحاكمة، لقد تربع الرئيس جمال عبدالناصر (رحمه الله) على قلوب العرب جميعًا، وبرع في توظيف الإعلام وتوجيهه إلى هذا الاتجاه بعد أن حل الأحزاب وأمم الصحافة والإعلام وحجب الأصوات الأخرى وجعل الإعلام يخوض حربًا داخلية ضد “أعداء الشعب من العملاء والمرتزقة وحرامية الشعب المستغلين” وفتح جبهة عربية واسعة ضد حكام العرب “الرجعيين”، وفي حرب الخامس من يونيو/‏ حزيران 1967 اعتقد جمال عبدالناصر بأن إسرائيل إذا زحفت واجتازت الحدود المصرية فإن القوى العظمى ستتدخل وتجبرها على الانسحاب، وبذلك يحقق انتصارًا إعلاميا كما حدث في حرب السويس أو العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956، لكن اعتقاده لم يكن صائبًا هذه المرة، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية