+A
A-

الذوادي يكمل تقاليد سينما "اندريه تاركوفسكي" والمقارنة بينهما تفرض نفسها

لا أعرف ما الذي دفعني لإعادة مشاهدة فيلم "الحاجز" للمخرج البحريني الكبير بسام الذوادي الذي يعتبر من أهم الأفلام السينمائية في منطقة الخليج العربي، وسر ذلك أنه أنتجه وأخرجه في فترة كانت فيه السينما في الخليج تحبو وتبحث عمن يخرجها وينتشلها من قانون الطبيعة العشوائية، وبعيدا عن مسألة الذوق والتذوق لخصوصية المعطيات الفنية للسينما عند المخرج بسام الذوادي، اكتشفت – ربما متأخرا- بأن المخرج الذوادي يشبه الى حد كبير المخرج الروسي الفيلسوف" اندريه تاركوفسكي" في مغازلة السينما، فتاركوفسكي دائما يخضع شخصيات أفلامه لخدمة الفكرة ولقطات يطلق عليها من فرط طولها اللقطات الفصل، في إعجاز فني لا تسطيعه سوى السينما الروسية بكل ما تملك من تراث إنساني لا نظير له، وهذا الإعجاز لا غرابة فيه؛ لأن صاحبة "اندريه تاركوفسكي" وكما قال عنه الناقد البريطاني "ايفور مونتاجو" ظاهرة فريدة لم تحدث في عالم السينما منذ أمد بعيد، ودرس على يد واحد من عباقرته " ميخائيل روم" بمعهد الفيلم بالاتحاد السوفيتي.

أما مخرجنا بسام الذوادي، فيسلك طريق البحث عن الذات وخط الضيق من روتين الحياة والموقف السلبي للإنسان من مجتمعه كما فيه شخصية بطل فيلم  الحاجز "حسن" والذي يقول عنه الذوادي، إنه يضع حاجزا بينه وبين الآخرين من جهة، وبينه وبين ذاته من جهة أخرى. والحاجز هنا يتمثل في كاميرا الفيديو التي يملكها ومن خلالها ينظر ليرى العالم كما يتخيله وليس كما هو على حقيقته. إنه يعزل نفسه في عالم من صنعة، ولا يعبأ بمشاكل وأزمات الآخرين. إنه لا يستطيع أن يحقق التواصل مع عائلته، ولا يفهم حقيقة مشاعر ومشاكل صديقة، ويخسر حبيبته بسبب مواقفه السلبية. وفيلم الحاجز يتناول الحواجز الاجتماعية والنفسية المفروضة بين الفرد والمجتمع من جهة وبين الفرد وذاته من جهة أخرى.

اندريه تاركوفسكي فطن إلى دقة الروابط التي تصل عالمه السينمائي بدنيا الناس والموجودات ولديه رؤية أمينة ومنزهة وقادرة على اكتشاف الحقيقة الخاصة بها، وتجربة بسام الذوادي تجربة صادقة متجاوبة مع احتياجات الإنسان المعاصر وأسلوبه السينمائي يتواءم مع رؤيته الخاصة للحياة. 

إذا كان شولوخوف يكمل تقاليد الأدب الروسي العظيم، تقاليد جوجول وتولستوي ومكسيم جوركي وديستوفسكي وينتمى إلى ذريتهم مباشرة، فإن مخرجنا بسام الذوادي يكمل تقاليد سينما "اندريه تاركوفسكي" والمقارنة بينهما تفرض نفسها فرضا، فكلاهما عنده قبول رصين لحقائق الحياة، هناك أناس يأكلون ويحبون ويحاربون ويموتون، وهناك أيضا ضياع وتردد وفزع وحيوية درامية متسلسلة دفاقة حيوية التصور التي لا تنال منها رتابة، وتقنيا كلاهما يشتركان في زاوية تصوير غريبة غير عادية تؤدي إلى ظهور الموضوع بكيفية لائقة، مستخدمين ذكائهما وعبقريتهما لتعميق الهدف النهائي في كل منظر ومشهد يقومان بتصويره.

تاركوفسكي والذوادي يشتركان أيضا في المقدرة على استخراج أحاسيس المشاهد تماما كما يفعل الناس حين يستلقون على سرير المحلل النفساني، ففي فيلم "الحنين للماضي" الذي اخرجه تاركوفسكي العام 1983 أرغمنا على الشفقة والخيال وتراتيل الأسئلة التي تدور في ذهن البطل "اوليغ يانكوفسكي" الكاتب الروسي الذي يزور إيطاليا لعمل بحث عن ملحن روسي من القرن الثامن عشر، وفي "حاجز" الذوادي دخلنا في الغموض والفجاعة والصدمة بتعدد معانيها الغريبة ونحن نشاهد البطل حسن يقلب كاتالوج المرارة واليأس من التواصل مع الآخرين، وسرنا كمشاهدين في تيار حوادث وإيقاع الفيلم بقوة سحرية عجيبة وشاهدنا على وجوه الأبطال عن كثب جميع الانفعالات النفسية.

في كتاب "الوجه والظل في التمثيل السينمائي" الذي ترجمه وأعده أمين صالح، يقول اندريه تارکوفسكی "أحد الأشياء التي يتعين على الممثل أن يفعله هو التعبير، في ظروف معينة، عن حالة نفسية خاصة به وحده، وأن يفعل ذلك بشكل طبيعي، منسجم مع بنيته العاطفية والفكرية، وعلى نحو ملائم لنفسه. لا يعنيني كيف يفعل ذلك، ولا الوسيلة التي يستخدمها. ولا أشعر بأن لي الحق في إملاء شكل التعبير الذي يجب أن تختاره سیكولوجيته الفردية؛ ذلك لأن كل واحد منا يختبر حالة معينة بطريقته الخاصة التي هي شخصية تماما. غالبا ما أشاهد ممثلين يقلدون إيماءات وسلوك مخرجيهم. شخصيا لا أدع الممثل يتبنی رسمي دوره. أريده أن يمتلك حرية كاملة ما إن يبين لي قبل بدء التصوير، أنه متصل كليا بفكرة الفيلم".

ويقول أيضا في كتابه "النحت في الزمن" الذي ترجمه أيضا أمين صالح: "بالطبع كل مخرج يعمل مع ممثليه بطريقة مختلفة. ممثلو فلليني يختلفون تماما عن ممثلي بريسون؛ لأن كل مخرج يحتاج إلى نماذج بشرية مختلفة. الأداء في أفلام بریسون لن يكون متخلفا وباليا أبدا .. كذلك أفلامه. ليس هناك أي شيء مدروس أو استثنائي في أداء الممثلين غير الحقيقة العميقة للوعي الإنساني ضمن الحالة التي يحددها المخرج. إنهم لا يمثلون شخصيات بل يعيشون حيواتهم الداخلية الخاصة أمام أعيننا".

بسام الذوادي يتعامل مع الممثلين بسيل من كلمات الاحترام ويعرف حقيقة الحياة التي نحياها، فلكل شخص منا طريقته ورمزيته وفلسفته، وبالتالي من المهم عنده أن يكون الممثل على طبيعته ويعبر عن نفسيته الخاصة كما قال اندريه تاركوفسكي.