الصراع المحموم، والحرب الطاحنة التي تدور رحاها على المواقع والمصالح والنفوذ بين الولايات المتحدة والصين كانت قد وصلت إلى منطقتنا منذ فترة طويلة، وبدون أدنى مبالغة فإن ميدان المواجهة بين هاتين القوتين قد ينتقل من بحر الصين الجنوبي إلى الخليج العربي، والمواجهة بينهما في هذه الحرب لن تكون بالضرورة عسكرية تقليدية، وسيستخدم الطرفان فيها وسائل وأسلحة جديدة. وفي إطار هذه الحرب بُدئ بالفعل في تشكيل شبكة من المحاور والتفاهمات والتحالفات بين أطراف أخرى لها أيضًا في منطقتنا مصالح وأطماع وأهداف متقاطعة؛ منها روسيا وإيران وتركيا.
إن من أبرز وأخطر تجليات هذا المشهد المريب كان توقيع صفقة أو “معاهدة التعاون الاقتصادي والاستراتيجي” بين إيران والصين؛ هذه المعاهدة أو الاتفاقية تتضمن 9 بنود و3 ملاحق، واستغرق التوصل إليها خمس سنوات من المباحثات، وتم توقيعها في 25 فبراير الماضي. وتؤسس لشراكة اقتصادية وأمنية واسعة، وتشمل برنامج تعاون متكاملا بين البلدين مدته 25 عاما يغطي مجالات حيوية مثل النفط والتعدين والنقل وتعزيز النشاطات الاقتصادية والصناعية في إيران، وتطوير الموانئ الإيرانية وإنشاء خط سكة حديد بين إيران والعراق وسوريا وإنتاج السيارات، وستضخ الصين في إيران بموجب الاتفاقية استثمارات بقيمة 400 مليار دولار في هذه المجالات، كما تنص الاتفاقية على تعميق التعاون العسكري بين الجانبين، بما في ذلك التدريبات والبحوث المشتركة، وتطوير الأسلحة ونظم الدفاع التقليدي والسبراني، وتبادل المعلومات الاستخباراتية تحت عنوان مكافحة الإرهاب والمخدرات والاتجار بالبشر.
والأخطر من ذلك، فإن هذا التعاون قد يؤدي إلى تفوق إيران في مجال الحرب أو الهجمات الالكترونية والذكاء الاصطناعي، فهو يتيح لها الوصول إلى شبكة الأقمار الاصطناعية الصينية، ويمكنها من التحكم في الفضاء الإلكتروني في المنطقة عن طريق بسط الهيمنة على محركات البحث ووسائل التواصل الاجتماعي والبريد الالكتروني وكسر الشفرات، بالاضافة إلى إنتاج الأجهزة اللوحية وأجهزة الكمبيوتر المحمولة والهواتف الجوالة، وستحصل الصين في المقابل على ما تحتاج من إمدادات نفطية إيرانية، بأسعار تفضيلية، وبشكل منتظم طيلة مدة الاتفاقية.
إلى جانب ذلك فإن إيران تجري مباحثات مماثلة مع روسيا ودول مجاورة أخرى لعقد اتفاقيات مشابهة، وكانت إيران قد وقعت في العام 2001، اتفاقية تعاون في المجال النووي مع روسيا مدتها 10 سنوات، تم تمديدها بعد انقضاء مدتها الأولى إلى 20 سنة أخرى.
حيال هذه التطورات لم يعد بامكان الدول العربية الخليجية البقاء على مدرجات المتفرجين، فالاتفاقية الصينية الإيرانية شكلت نقطة تحول هزت وأخلت بقواعد وتوازنات الأمن في الخليج، وزادت من تعقيداته، واخترقت منظومة التحالفات الأمنية التقليدية في المنطقة التي كانت الولايات المتحدة تهيمن عليها، كما إنها أجهضت الخيارات الاستراتيجية بالنسبة للدول العربية الخليجية، بمعنى أنها أدت إلى قطع الطريق على هذه الدول إذا رغبت أو اضطرت للاتجاه شرقًا، لأن إيران قد سبقتهم بالفعل إلى تلك الوجهة وأصبحت حليف الصين في الخليج العربي.
الدول العربية الخليجية لم تفاجأ بالتوقيع على هذه الاتفاقية في شهر فبراير الماضي، فقد تم تسريب معلومات عنها من الجانبين منذ بدء المباحثات حولها قبل خمس سنوات، ولعل أحد أغراض التسريب كان جس نبض ومعرفة ردود فعل هذه الدول، ولا يوجد حتى الآن ما يدل على أن هذه الدول أبدت أي اعتراض أو تحفظ أو حاولت عرقلة إبرام الاتفاق بتوفير اغراءات وخيارات أفضل للصين لثنيها عن الدخول مع إيران إلى هذا المستوى المتطور من التحالف والتعاون الاستراتيجي العميق.
وحسنا فعلت الدول العربية الخليجية، فهي تدرك أنها لن تستطيع إقناع أو منع الصين من إبرام الاتفاقية على الرغم من قوة الموقف التفاوضي لهذه الدول معها، فالصين أكبر شريك تجاري لها، وبلغ حجم التبادل التجاري بينهما ما يقارب من 190 مليار دولار أميركي في العام 2019. على الرغم من ذلك فإن لإيران بالنسبة للصين أهمية كبرى؛ فإلى جانب توفير النفط للصين؛ فإن موقعها الجغرافي يعتبر شديد الحساسية وبالغ الأهمية لتنفيذ مشروع “الحزام والطريق” الصيني؛ الذي يشمل بناء طرق تربط الصين ببقية أنحاء العالم مما يمكنها من توسيع نفوذها كقوة عالمية، إيران هي حلقة أساسية ومن أهم مفاصل ونقاط الارتكاز لهذا المشروع.
وليس سرا أن الدول العربية الخليجية، أو على الأقل غالبيتها، لا تتمنى ولا ترغب في توصل إيران والولايات المتحدة في مباحثات فيينا إلى اتفاق حول رفع العقوبات عن إيران وإحياء “الاتفاق النووي” الذي انسحب منه الرئيس دونالد ترامب، والذي يسعى الرئيس بايدن إلى إعادة تفعيله بصيغة جديدة. إن الاتفاقية الصينية الإيرانية ستجعل تحقيق اتفاق بين الولايات المتحدة وإيران حول رفع العقوبات وإحياء “الاتفاق النووي” أكثر صعوبة وتعقيدا، إن لم يكن مستحيلا.
ولرب ضارة نافعة؛ فالاتفاقية الصينية الإيرانية قلبت حسابات واشنطن في المنطقة، إذ ليس سرا أيضًا أن الدول العربية الخليجية كانت قلقة ومتوجسة من خطط الولايات المتحدة وقرارها الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط أو تقليص تواجدها فيها إلى أقل قدر ممكن؛ ولأن الاتفاقية الصينية الإيرانية تتحدى النفوذ الأميركي في المنطقة بشكل سافر فإنها ستفرض على الولايات المتحدة التراجع والتخلي عن هذه الخطط والقرارات، واعادة ترتيب أولوياتها الاستراتيجية؛ بحيث تعود منطقة الشرق الأوسط على رأس وفي صدارة أولوياتها واهتماماتها، ويضطرها إلى البقاء وتعزيز وجودها فيها. وفي السياق ذاته، وكما هو معروف فإن الولايات المتحدة لم تعد في حاجة إلى النفط الخليجي كما كانت من قبل، إلا أنها، دون أدنى شك، ليست على استعداد لأن تسمح لقوة أخرى، وبالذات الصين، بالسيطرة على منطقة تحتوي على 60% من احتياط النفط العالمي، وهذا أيضًا ما سيفرض عليها استمرار البقاء والالتزام بأمن وسلامة المنطقة.
وبصلة مباشرة بقضية الأمن بالمنطقة، فإن شروع إيران والصين بالتفاوض ثم التوقيع على هذه الاتفاقية بجوانبها الأمنية والعسكرية والاستخباراتية كان الدافع والمبرر لإقدام الدول الخليجية العربية على تطبيع علاقاتها بإسرائيل، سرا أو علانية، والدخول معها في ترتيبات أمنية، سرا أو علانية أيضًا، بعد إدراك هذه الدول لما تمثله هذه الاتفاقية من أخطار وتحديات وتهديدات أمنية واضحة على أمنها وسلامة مقدراتها ومستقبل شعوبها.
المساحة المتاحة على هذه الصفحة لا تسمح بالتطرق إلى المزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع الخطير المهم، فنكتفي في الختام بالإشارة السريعة إلى أن التحالفات الأمنية والعسكرية التي تحاك حول الدول العربية الخليجية وما تحمله من أخطار وتهديدات تفرض عليها ضرورة الإسراع في إعادة هيكلة منظومتها الأمنية والدفاعية لتشمل تعميق وتعزيز التحالف مع الولايات المتحدة، وتوثيق علاقاتها وترتيباتها الأمنية مع إسرائيل، ودعوة الهند إلى الانضمام إلى هذه المنظومة؛ فالهند بدورها تراقب هذه التطورات بقلق شديد؛ خصوصًا التقارب المتزايد بين الصين والباكستان في إطار مشروع “الممر الاقتصادي بين الصين والباكستان (CPEC).