+A
A-

كاظم مؤنس: الفيلم التسجيلي من أهم الأسلحة الفكرية الموجهة للداخل والخارج

هناك دائما أدباء ومفكرون يعتبرون ذا أهمية خاصة وتجتمع فيهم الصفات التي يمكن أن تجعلهم رموزا وصورة صادقة لعصرهم، وكاظم مؤنس أستاذ الإعلام المشارك في الجامعة الأهلية بقسم الإعلام والعلاقات العامة، أحد أولئك الرواد الذين أغنوا المكتبة العربية بكنوز في شتى المعارف، وحيدا بلغته منفردا بأسلوبه حتى أصبحت مؤلفاته الأكثر شيوعا وانتشارا في العالم العربي.

لكاظم شخصيته المتميزة ومنهجه الخاص ورأيه المستقل في عالم الأدب والفكر والفن برع فيه كل البراعة، ووجدت نفسي في حيرة وشقاء صياغة وطرح الأسئلة على مثل هذه القامة بتجاربها وخبراتها ومشاهداتها، وأخيرا وقفت أمامه بصلابه وعزم وثقة في النفس، وأجريت معه الحوار التالي:

مسرحيا.. كيف بمقدورنا إيصال صوتنا صافيا مؤثرا إلى أوسع قاعدة شعبية؟

البلدان والدول ترقى وتبقى بفنونها، والفنون بكل مجالاتها وتخصصاتها تسهم بفاعلية عالية في تثبيت ونشر هوية وثقافة الشعوب، فضلا عن الكثير من الأدوار التي تلعبها وتؤديها في مجالات حياتية مختلفة، ولعل من أبرزها أنها تسهم كثيرا جدا في فهم ديالكتيك الحياة وجدلية العلاقة بين الأشياء ومرجعياتها في الوجود إلى جانب تنميتها للقدرات الإبداعية والمهارات المعرفية وتوسيع أفق النظر وتعميق الوعي وترسيخ الهوية الوطنية في إطار الوحدة مجتمعية، ولطالما كان الفن إنسانيا معولما يتجاوز مشكلات اللغة والأبعاد الزمكانية، ولطالما عمل أيضا رقي وتنامي الحضارات والمجتمعات الإنسانية وتخليدها عبر حواره الحسي والفكري والإنساني في آثاره وإنجازاته التي قدمها الفنان على مر العصور.

ولو دأبنا على الحديث عن وظيفة الفن، فلن ننتهي من تعدد أدواره على المستوى الفكري والنفسي والاجتماعي.

ويأتي المسرح في مقدمة هذه الفنون؛ كونه من أقدم الفنون التي عرفها الإنسان، منذ بدء الطقوس الدينية ونشأة المجتمعات البدائية الأولى، ولذلك جاءت العبارة الشهيرة "أعطني مسرحا أعطيك شعبا مثقفا"؛ لأنه حامل لرسالة وهي بالتأكيد تمثل إرهاصات مجتمع ما ولأنها كذلك، فهي تعكس بالضرورة قيما إيجابية كالوحدة المجتمعية وزيادة التسامح والمحبة بين أبناء المجتمع الواحد كما أنها تسهم برصد الظواهر والتحديات وتشير إليها، وهنا يفعل المسرح دوره الإعلامي وليس الفني فحسب؛ لذا يتوجب على المسرح الاستمرار برفد وبث المزيد من الرسائل الإيجابية في مناحي حياتية مختلفة تمس روح الشعوب وتطلعاتها وهذا دوره الأساسي ووظيفته الكبرى، عندها فقط تتمكن من قاعدة شعبية تتلقى رسائل مسرحية تعكس كل تطلعات الشعب وحبه للخير والتقدم، ولكي تؤسس لتشكيل هذه القاعدة الشعبية عليك أن تبدأ من المدارس والمؤسسات التعليمية بكافة مراحلها، فضلا عن السعي على تنامي وتطوير وزيادة عدد الفرق المسرحية والأعمال والمشاركات الخارجية لخلق مناخ مسرحي، تجد فيه كل القطاعات المختلفة تطلعاتها وآمالها، تجد فيه ما يعنيها بالدرجة الأساس، آنذاك فقط تخلق مسرحا وصوتا صافيا يمس وحدات ومؤسسات مجتمعية مختلفة.

ثلاثة هم الذين غيروا وجه الفن المسرحي في فرنسا.كوبو/ وأرتو/ وفيلار. من هم من وجهة نظرك الذين غيروا وجه المسرح العربي؟

يجب أن نتفق بأن للفن المسرحي، شأنه شأن جميع الفنون ذاكرة جمعية، فهو نتاج تراكمي للإنسان حيثما كان عبر العصور، وتشير الدراسات الآركيولوجية والتأريخية إلى أن الإنسان قد عرف المسرح من الآف السنين، والمنظرين في هذا المجال وضعوا الطقوس الدينية البدائية والقديمة ضمن هذا النشاط، وبفضل التلاقح الحضاري والأدوار الحضارية التي مرت بها البشرية تكونت ونضجت تأويلات ومحاكاة للعديد من الأحداث والأساطير التي عمل الإنسان على تمثلها لإشباع حاجات مختلفة كانت على الدوام تمس حياته وأشكال معيشته، ومن هنا استمرت الفنون المسرحية بالديمومة والتطور والتنوع فيما بعد لتصل إلى ما وصلت إليه اليوم. وبإمكانك القول: بأن ثمة ذاكرة جمعية لفن المسرح، كما يجب أن نعترف بأنه من الطبيعي أن يكون هناك وعلى مر العصور من عمل وقدم وألف وأضاف لهذه الذاكرة الجمعية لتبقى حية ومتقدة، ولذلك من البديهي القول بأن المسرح فن إنساني بالدرجة الأولى، لكنه بهويات ثقافية متعددة حاله حال جميع الفنون الأخرى. وتأسيسا على ذلك أصبح بالمكان أن القول: المسرح الأوروبي والمسرح العربي والمسرح الإنجليزي وهكذا. وهنا لا يمكن نغفل العديد من الأسماء التي أسهمت من خلال أدوار مختلفة في اجترار تجارب مسرحية أقدم منها من خلال المحاكاة أو النقل، فضلا عن الترجمة والاقتباس (سمها ما شئت) وساعدت في ذلك عوامل عديدة لنسمها التلاقح الحضاري وسهولة التواصل والانتقال، وهنا برزت في عالمنا العربي الكثير الأسماء بدءا من مارون النقاش في منتصف القرن التاسع عشر ومعاصره أبو خليل القباني، من ثم جورج أبيض ويوسف وهبي والريحاني وشوقي والحكيم، ومع الحكيم تعرض بعض الكتاب والأدباء للمسرح، فكتبوا فيه مثل علي أحمد باكثير وعزيز أباظة والقائمة تطول والشيء نفسه حدث في بلدان عربية أخرى حقي الشبلي في العراق والطيب الصديقي في المغرب وصولا إلى الأجيال اللاحقة، وكما ترى أن للمسرح ذاكرة جمعية استمرت في الحياة بدرجات متفاوتة  تخبو وتشع من جيل إلى آخر، لتوصله إلى ما وصل إليه اليوم شكلا ومضمونا ومدارس مختلفة.

من النوافذ الرئيسة التي نطل عبرها لمتابعة حركة واتجاهات الأدب والحضارة العالميين، تحتل الترجمة فيها مكان الطليعة. هل تعتقد أننا مازلنا نفتقر إلى مؤلفات مترجمة عن ثقافة وفنون شعوب ما؟

بالتأكيد: وعلى رأيك يتفق الجميع؛ لأن الترجمة ليس فقط هي عملية إخبار وتوصيل ما يدور وما يجري من حولك في هذه الحضارة الشائكة والمعقدة جدا بكل إرهاصات الواقع اليومي، بل هي واحدة من أهم النوافذ الفكرية التي تطل من حافاتها على مساحات وألوان وتقاليد وتجارب إنسانية ووثقافية بألوان عديدة، خصوصا تلك التراجم الأمينة التي تحفظ لك روح النص ومزاجه وصبغته، ولكي يتحقق ذلك على المترجم أن يعيش بنكهة وثقافة اللغة التي يترجم منها؛ لأنها تنقل وتفصح عن المزاج الشعبي لذلك البلد ولذلك الشعب، وليس الكلام المعجمي؛ لأن الفنون بطبيعة تشكلها وتشيئها نصوصا دلالية وجمالية تنضوي تحتها العديد من القيم الفكرية والنفسية وخصوصا في الفنون الدرامية، ومنها المسرح وهذه القيم لن تجدها مرصوفة في المعجم؛ لأنه لا يخبرك عنها، لذلك نحتاج إلى ترجمة من تحفظ روح النص، ولك أن تطالع العديد من الكتب المترجمة، التي ترميها بعد شرائها بسبب افتقار التراجم لما ذكرناه سابقا. مما يجعل من الترجمة بذاتها ولنفسها عملا إبداعيا قادرا على تشكيل بناء النص بلغة مختلفة.

من هذا المنظور نعود لسؤالك المهم جدا، ولعلنا نتفق جميعا على أن الترجمة تمثل في صميمها معبرا للتواشج الإنساني والثقافي والمعرفي بين المجتمعات، وهي حاضنة للإرث الثقافي الإنساني في مختلف العلوم والمعارف والمهارات، واليوم بحكم التطور التكنولوجي في علوم الاتصال والتقنيات جعلت التواصل أسهل بكثير ولأننا لا نعيش وحدنا في هذه الحضارة يتوجب علينا أن نتابع منجز الآخر، وقراءتنا للآخر يمكن أن تُعد علامة سلام ومحبة يمكن للآخر أن يتلاقها بمشاعر من ذات النوع وإن كان مختلفا عنا في الكثير من الأشياء، وهذا أيضا يشجع الآخر على أن يهتم هو الآخر بمنجزنا الثقافي والعلمي والمعرفي، وما أحوجنا إلى ذلك لتأكيد مساهمتنا ودورنا نحن العرب في بناء الحضارة الراهنة، علنا نستعيد دورنا الناصع في بناء التراث الإنساني، عندما شيدت الحضارة الغربية أغلب منجزها المترجم على ما أكتنزه العرب من كتب ومعارف في العلوم المختلفة، والترجمة على أهميتها اليوم نسجا من الاستكشاف ليس فقط لقراءة توجهات الآخر من حولنا فحسب لكسر الصوت الواحد والانطواء والتقوقع على الذات، فمن خلال النصوص المترجمة بإمكاننا الولوج للثقافات الأخرى عبر المنافذ المعرفية المترجمة، ونهاية القول، نعم كنا بحاجة ومازلنا بحاجة إلى بذل المزيد من الجهد في الترجمة في حقول المعرفة المختلفة، وتلك دعوة لتشكيل دوائر ومؤسسات تشجع على الترجمة في العديد من المؤسسات ذات العلاقة، بما يخدم الوطن.

يقول المخرج السوري مأمون البني السينما العربية لم تصل إلى المرحلة التي تجبر الآخرين على احترام الثقافة ...تعليقك؟

السينما لم تعد السينما كما كانت، بل تعقدت جدا صناعة السينما بسبب التطور التكنولوجي والإلكتروني الذي دخل بقوة في صناعتها وأصبح عمودها الفقري اليوم، ولذلك لا أحد اليوم يحتمل مشاهدة فيلما مصنوعا على غرار فترة السبعينات وما قبلها، فلنقل مجازا فيلما مصنعا باعتماده على الصورة والتركيب المونتاجي فقط ومكملات المسار الصوتي، وأنا شخصيا كأحد المعنيين في هذا المجال في النقد وصناعة الفيلم، أقول إن الصناعة السينمائية أصبحت تعتمد كثيرا على المؤثرات البصرية وتحولت في العقود الثلاثة الأخيرة مما نسميه بالسينما الناعمة إلى السينما ذات المؤثرات البصرية بالدرجة الأساس وحتى السرد فيها يحتل درجة محايثة للمؤثرات، بالرغم من أن السينما بطبيعتها الروائية هي فن السرديات البصرية، فإذا سلمنا بذلك سنقول: إننا باختصار بعيدين جدا عن هذه النقطة، كما لو أن سنوات ضوئية تفصلنا عن السينما الأمريكية، وما يصعب الأمر في السينما العربية أننا لا نولي هذه الصناعة ما يكفي من الاهتمام وتوفير رأس المال المناسب لها، المال الذي يكفي للنهوض بها، إنها صناعة وصناعة ثقيلة تحتاج إلى كارتلات وشركات ضخمة وكبيرة تتولى هذا الأمر. أما الاتجاهات والإضاءات التي تظهر هنا وهناك، فهي نادرة ولا تستطيع أن تستمر وقاعات الاحتفاء بها هي فقط الصالات المخصصة لها في المهرجانات، لذلك حديثي يعنى أولا بالصناعة السينمائية وليس بأفلام المهرجانات، ولو أنك ذهبت لمراجعة كل تأريخ السينما، فستجد أن كل الاتجاهات الفنية التي ظهرت من بعد الحرب العالمية الثانية حتى اليوم لم تستمر أكثر من عشر سنوات في أحسن الأحوال خذ مثلا الواقعية الإيطالية الجديدة وأجيالها الثلاث، وأنظر إلى الموجه الفرنسية والسينما الحرة وسينما الأندركراوند وغيرها، قل لي أي منها استطاع الوصول إلى اللحظة الراهنة ؟ لا أحد؛ لأن لصناعة السينما متطلبات إنتاج بالغة الصعوبة، وبلدننا العربية غير قادرة على قيادة هذا النوع من السينما لأسباب عديدة. أبرزها ضعف الإيمان بدور الفيلم ووظيفته الفكرية والتربوية، وغيرها من الأسباب المعروفة من لدن الجميع. لذلك ليس لها جمهور واسع خصوصا مع ظهور وتعدد الفضائيات والمنصات والإنترنت والمواقع التي توفر مشاهدة أفلام من كل نوع، وسهولة الوصول إليها.

يجب أن تنظر الدول باهتمام للفيلم التسجيلي؛ لأنه هو البداية الحقيقية لأي سينما بالعالم..هل تتفق معي؟  

أحسنت أتفق معك تماما، لقد شكل الفيلم التسجيلي أو الوثائقي في مراحل تأريخية أداة بالغة الأهمية في بناء السمعة سياسية للدول وأنظمتها، كما سلط بفعل طبيعته الواقعية سلاحا قويا في مواجهة التحديات التي تواجه الشعوب، فضلا عن كونه الأساس المادي لإطلاق صناعة السينما في العديد من البلدان التي تنبهت لدوره البنائي والثقافي.

ويُعد الفيلم التسجيلي من أهم الأسلحة الفكرية الموجهة للداخل والخارج،  ويعلق ماك سينيت على فيلم "انتصار الإرادة" الذي كتبته وأخرجته الألمانية ليني ريفنستال، في مارس العام 1935، "لقد تسبب هذا الفيلم بهزيمة أوروبا من قبل أن يقوم هتلر بغزوها فعليا"، ويُعتبر من أقوى وأهم الأعمال الدعائية لما تضمنه من لقطات حاشدة  لجماهير الحزب النازي وخطابات زعمائه في حينه، فكان صادما على المستوى النفسي لتلك البلدان أبان تلك الفترة، وكانت أغلب دور السينما في العالم، تعرض الأفلام التسجيلية مع دعايات عروض الأفلام القادمة، ولكن هذا التقليد للأسف انتهى وذبلت معه صناعة الفيلم التسجيلي.

إصداراتك الجديدة؟

لقد صدر لي كتابان جديدان عرضا في معرض القاهرة الدولي للكتاب، وهما:

"لذة الخوف وغواية المثير في سينما الرعب"، وهذا صدر عن المركز العربي للدراسات والبحوث العلمية في القاهرة، وهو دراسة سيكوسيسيولوجية تتعرض بالدرجة الأساس للإجابة عن سؤال: لماذا تبدو المرأة مولعة أفلام الرعب؟ أما الكتاب الثاني، فهو "دكتاتورية اللغة وأقنعة الرمز في الخطاب الاتصالي"، وصدر عن مؤسسة حورس الدولية للطباعة والنشر والتوزيع في القاهرة.

وأعمل بشكل حثيث عن الانتهاء من كتاب جديد عن السرديات البصرية في فن كتابة سيناريو. ومنكب على إنجاز بعض الأعمال البحثية بالإضافة إلى تفاصيل أخرى في الشعر والنقد

وحانت لحظة الشوق المسافر لنسألك عن كلمتك الأخيرة؟

أشكرك جدا على إتاحة هذه الفرصة للإطلالة على جمهور "جريدة البلاد الغراء"، كما أشكرك مرة أخرى على فتح الباب للحديث عن موضوعات شتى تهم الثقافة والفن، وإن كان هناك المزيد من الحديث الذي لم نتطرق إليه في هذا اللقاء في مجالات الشعر والنقد والكتابة المسرحية، متمنيا للأحبة وللحركة المسرحية في مملكة البحرين المزيد من الإنماء والازدهار.