+A
A-

بروين حبيب: طفولتي التعليمية وتربية أمي العسكرية مفتاح ما وصلت إليه

خرجت من المنامة تحمل في حقيبتها الصغيرة حب التعلم واللغة، كبرت لتصبح فراشة تحلق في السماوات السبع بين بحر وقصيدة، سحر حتشبسوت دفعها لسفرها الأول إلى مصر حيث كانت البداية، أما انطلاقتها فكانت حين حطت رحالها في دبي، عشرون عاما وأكثر ولا تزال الفراشة تسافر بين العالم علها تجد ضالتها، بروين حبيب ولقاء حصري لمسافات البلاد:

  • إن للوالدة دورا كبيرا في حياتك، ما هو هذا الدور؟

تحب أمي العلم، ربَّما لأنّه كان حلمها المفقود والذي لم تستطع تحقيقه، فكانت تريد تحقيقه من خلالي. كانت أمي حريصة على أن أقرأ وأن تسمع هي من المدرسات: كتابات بروين جميلة، حيث كانت تذهب في الإجازات إلى المكتبة وتشتري لي الكتب، فأنا أسست أول مكتبة في حياتي برفقتها. لم تكن أمي تلك الأمَّ التي تريد ابنتها أن تصبح دميةً لكي تراها أم فلان لتعجب بها وتخطبها لابنها. كان التفوق والعلم من أولويات الحياة لديها، وبعد أن أصبح لديها الوعي بما أقوم به أصبحت تهتم بنجاحاتي أكثر. كنت أشعر أنها تقليدية وليست بتقليدية، فهي كانت تلتمس الطموح لدي وتحترم رغبتي وأعطتني حريتي لأنها لامست في الاختلاف.

  • الأب هو العكاز الذي نستند عليه، كيف كان وما هي ملامحه في رحلتك؟

كان لدى أبي وعي فطري كبير بخلاف ما لدى أمي التي لم تكن تحب وظيفتي في التلفاز، ولكن الوضع معه كان مختلفًا وهذا الأمر الذي دفعني ودعمني منذ البداية، كان يحب حضوري على التلفاز ويقول لنا: "يقول أصدقائي: لغة ابنتك العربية سليمة". أبي شخص بسيط وطيب جدا، لا زالت صورته لدي عندما كنّا نذهب للمدرسة في المنامة خارجين من المنزل حينها لم يكن الكثير يملكون السيارة في المنامة، والجوّشتاء بارد فكنت أذهب مع زميلات الدراسة، ويسألني: "ربعج هذول؟ خلهم يركبون معانا نوصلهم"، التواضع والإحساس بالآخر؛ كاحترام العامل مثلًا من شيمته، وأشعر أنني ورثت منه هذه الصفات.

  • بروين ابنة روحك، إلى أي حد تجدين نفسك فيها وما الذي تعلمته منها؟

فاجأتني أختي حينما أطلقت اسم بروين على ابنتها، يوجد الكثير من الأشياء المشتركة بيننا، فهي تكاد تشبهني أكثر من والدتها، والمقربون يجدون -دائما- هذا الشبه الكبير، فنضحك ونقول: إنها ابنتنا المشتركة. أشعر أن الله أوجدها لأستشعر طاقة الأمومة المهدورة في حياتي. فأنا مارست الأمومة مع أخواتي وأمارسها أيضًا مع والدتي، فكأن الله يخبرني بأن بعضا من جيناتي موجودة فيها؛ لأن جينات الأخوات متشابهة فهي احتمال من احتمالات الوراثة كانت ستكون ابنتي. بروين طفلة لديها أصرار وتحد وأعتقد أنها ستتجاوزني بالتّأكيد فهي ذكية وطموحة وسابقة لسنها.

  • الدعاء هو الباب السري لله "اللهمّ لا تمت طفلة الإبداع في" أين هي تلك الطفلة؟ وبماذا تتغذى لتسطع بهذا النّور؟

دفء البشر، ليست فقط الثقافة والمعرفة والكتب، بل الحياة بكل تجاربها. أنا أتغذى بالتجربة وأعيشها، من الممكن أن أقضي أربع ساعات في الهاتف مع صديقة تمر بتجربة عاطفية فاشلة في حين أنهم قد يرونه هدرًا للوقت، ولكنني أتعلم. فأنا أتعلم من الجميع. فكل شيء يغذي الطفلة التي داخلي، أنا لدي شغف التجربة، أنا أفكر في إنتاج فلم ما أو التمثيل فيه، فلا زالت توجد غصة بداخلي وهي مهنة التمثيل.

  • الوزير زعفران والمرآة تحولا إلى فراشة انطلقت إلى عالم الثقافة والإعلام، كيف هي رحلة الطيران؟

أتذكر هذه الرحلة دائمًا، كان في مدرسة السلمانية في الطابور الصباحي تحديدًا، ومديرتي الأستاذة "شيخة القوز" تنادي: "بروين حبيب الميدالية الذهبية عن دور ثانوي وهو الوزير زعفران، وأركض مسرعة حيث كنت سأقع قبل الوصول إلى المسرح"، هذه اللحظة لا أنساها وكأنها الأمس، لأنها هي التي وضعتني على الطريق الصحيح وإلا سأكون طالبة متفوقة تدرس الطب وتعمل في أحد المستشفيات دون قناعة أو حب، وتستلم راتبًا في آخر الشَّهر وتكون إنسانًا عاديًا.

  • جامعة البحرين قسم اللغة العربية، ما الذي صنعته هذه المحطة بك؟

انشرحت أساريري كلها، أيام الجامعة أجمل أيام حياتي، وليست كذلك حيث توجد الكثير من الأيَّام الجميلة غيرها، لكن لا أعلم لماذا جامعة البحرين حين أتذكر أيامي فيها رغم المعاناة أشعر بالحنين لهذه الأيّام؟ إذ كنَّا ندرس ونركب الحافلات الحديدية المهترئة، وكنت أذهب من بيتنا بمنطقة المنامة وأنتظر الحافلة عند الكنيسة، ولم يكن لدي سيارة حينئذ، فكنت أذهب مع والدي أو إحدى صديقاتي اللاتي يملكنها. لم أكن طالبة مدللة ولم يكن عندي سيارة لأعود للمنزل في أي وقت أو أذهب للمقهى، فكنت اضطرّ للجلوس في الجامعة ساعات طويلة، أذهب للمكتبة أو أمارس أي نشاط، وأشعر بالاستياء حين أرى الشّباب يتهاونون بالدراسة أو يذهبون للمحاضرات متأخرين، وكأنهم ليسوا في الجامعة، أعتقد أنّني عشت الحياة الجامعيَّة على حقيقتها.

كانت جامعة البحرين بدايات الأنشطة الطلابية التي كنت نشطة بها، فكنت أحب جمعية اللغة العربية ونادي المسرح الجامعي ومسابقات إلقاء الشعر. كنت محظوظة جدا أنه كان لديَّ دكتور من مصر ودكتور فلسطيني وآخر أردني يدرسني النحو، فالجامعة كانت توفِّر لنا الكثير من الأساتذة المهمين من كل الجامعات. فهناك أسماء تتلمذت على يدها وزملاء عشت معهم أيامًا جميلة. عرفت قيمة جامعة البحرين حين سافرت إلى جامعة عين شمس وأصبحت دراستنا صعبة وغير سهلة، فلم أكن أشتري الكتب والمراجع لذلك كنت أقوم بطباعتها على شكل ملازم، وكيف كنا نتلقف الكتاب والدورية والمخطوطة فقد كنا نعرف قيمة الكتاب ولم يكن الأمر بالشيء السهل.

لم أكن طالبة دودة كتاب فقد كنت أحب الدراسة، ولكن أمارس الأنشطة ولدي برنامج في التلفاز والإذاعة، وكنت أشدد على دراستي وأحضر محاضراتي. ويعود الفضل في ذلك إلى تربية أمي العسكرية، فقد كانت حريصة على عدم الغياب حتى وإن كنت مريضة.

  • ما قصة الدكتور صلاح فضل وقرار بيع السيارة؟

الدّكتور صلاح فضل استاذي في النقد العربي في الجامعة، وهو وراء تشجيعي على إكمال دراساتي العليا، فكان دائما يشجعني على القراءة، وكان يقول لي دوما: عمر المذيع قصير والمذيعة تحديدًا، لذلك لا بد أن تكوني مسلحة بالشهادة، فأنت إنسان أكاديمي. أما قصة السيارة فهي أنني تخرجت بشهادة البكالوريوس بعدها قال لي الدّكتور: لا بد من دراسة الماجستير لدينا في مصر. حينها كنت أعمل مدرسة بوزارة التربية والتعليم ولم يكن من حقّي أن آخذ إجازة إلا إذا كانت من غير راتب، فقمت ببيع سيارتي على والد صديقتي وقدمت على جامعة عين شمس، كانت حركة مجنونة مني، ولكنَّ الأمر كان يستحق.

  • نزار وبروين واللقاء الحلم، ماذا حدث؟ وماذا تتذكرين منه؟

إنّ الذي رتب لنا هذا اللقاء هو الأستاذ غازي القصيبي رحمه الله، وكان في شقته بأكسفورد في لندن، وتأخيري عن الموعد هو من المواقف التي لا أنساها، فقد تأخرت وقمت ألهث على السلالم وكنت متحمسة جدا لرؤيته، وكان واقفًا عند الباب ينتظرني على الوقت فقلت له: قامة شعرية تنتظرني أنا! من أنا؟ ومن المواقف الأخرى قال لي ذات مرة: "ماذا تحفظين من شعري؟ فألقيت عليه قصيدةً من قصائده وقال لي: "والله أنت بتلقي شعري أحلى مني" وقد أهداني ديوانه "مايا" وكتب لي إهداء خاصا.

  • ماذا أضافت لك التجربة الإذاعية الأولى مع المخرج خليفة العريفي؟

البدايات والاكتشافات، خليفة العريفي هو من جعلني على المسار الصحيح، وأنا وجهت له في يوم الإذاعة العالمي كلمة وهي "الرجل الذي غيّر حياتي"، وهو كذلك، فقد آمن في بروين وموهبتها وأخذ بيدها، والقليل الآن يفعل هذا الأمر، أقول له دائمًا: أنت عملت مع أساتذة، فيقول لي: أنا عملت مع الكثيرين، ولكنك موهبة حقيقية.

  • لديك الوعي بالاختلاف، ما نوعه ومن أين جاء؟

منذ طفولتي كنت أشعر أني مختلفة عن أقراني، أنا لست مع فكرة التمييز، ولكن الاختلاف نعمة في الحياة. كان لدي إحساس بوجود هبة ما بداخلي، كنت أقف أمام المرآة وألقي الشعر وأحفظه، وأمسك اللاقط الصوتي للإذاعة المدرسية فرحة أمام الطالبات، وأشعر بالنشوة حين أحصل على درجة كاملة في التعبير، وحين أسجل البرنامج الإذاعي مع خريجي معهد الفنون المسرحية، وكنت أرى نفسي خارج بيئتي الاجتماعية والدينية. لا أعرف أن كانت هبة أم لعنة، لأنّ الهبة من الممكن أن تكون لعنة حيث صاحبها يحارب ضد التيار ويواجه أمورا ليست سهلة. الحياة وضعتني أمام مواجهات كثيرة، ولدتُ بِهَا ورحلتي كانت مليئةً بالأشواك، في إجازتي مثلا كنت أجلس من الصباح الباكر لأكتب نشرة أخبار بثمانية دنانير، ثم أذهب لتسجيل مقطع صوتي بخمسين دينارا لشركة ما، وأيضا أسجل ملفات لبنك البحرين الوطني بستمئة دينارا. كان إيقاع حياتي سريعا جدا وهذه المرحلة لم تكن سهلة كذلك، ولكن الاستقلال المادي وحبي للتخصص هو الذي ساعدني. ولم أكن مقتنعة كلّ الاقتناع من عيش هذه المذيعة. أستاذي في الجامعة كان يقول لي: أنت لست نجمة تلفاز، أنت بنت تحب الأدب ولا بد لك من دراسة الماجستير. كنت أشعر دائما أن الله يسخر لي بشرًا يكونون محطات في حياتي، أولهم خليفة العريفي الذي أخذني في برنامجه "عندما يرفع الستار"، وفوزي الجفن وعبد الشهيد عاشور حين اكتشفا بروين في الجامعة، وكانا يبحثان عن وجه جديد لبرنامج رمضاني (أغاني وأفلام)، ثمّ الأستاذ صلاح فضل الذي آمن بي وجعلني أكمل دراستي لأحصل على شهادة الدكتوراة، وآخرهم الأستاذ علوي الهاشمي الذي شجعني ونشر كتاباتي في حقيبة الأدب، هؤلاء كلهم سخّرهم الله لي لمساعدتي.

  • أين تتجلى الدهشة في بروين وما الذي يغذيها؟

الدهشة في عبارة جميلة، أو بيت شعر، أو تركيب لغوي، أو صورة مدهشة، أو رواية تجعلني أقضي الليل بطوله لقراءتها، أو فلم سينمائي يطرح شيئًا جديدًا، الأقلام والكشاكيل، وأكثر ما يدهشني هو الوفاء حينما تكتب لي طالبة على أحد برامج التواصل الاجتماعي: أستاذتي لقد كنت علامة فارقة في حياتي. أتأثَّر حين تتواصل معي صديقاتي من البحرين، لأني أشعر بأن هذه المرحلة كانت حقيقية جدا حيث لا أجندة فيها ولا تخطيط، ولم يحبوا الهالة التي تحيط بي بل أحبوا بروين لذاتها.

  • "أنا امرأة الفيض لا الكثرة" ما هو الفيض الدائم بالنسبة لك وهل الشعر هو السبب؟

أنا أحببت ومضة الشعر والقصيدة النثرية، فأنا ابنة الحداثة التي تأثرت بأدونيس وأنسي الحاج وقاسم حداد وخليل حاوي وأمل دنقل، وفي فترة من الفترات كنت أعشق نزار قباني، ولكني تجاوزته بعد الماجستير. اليوم يتربع درويش في بيتي، أعتقد أن خيار نزار قباني مهم في حياة كل شخص متلق للشِّعر لأنه البوابة لدخول عوالم الشعر، مثلما كنت أقول: إن إحسان عبد القدوس بوابة للرواية. في الشعر أكتب الومضة الشعرية رغم أنِّي كائن أحب السرد والتَّفاصيل، لذلك أنا امرأة الفيض، فالرواية هي الجنس الأدبي الذي يناسبني، لذلك هذا الحلم لا زال قائمًا وموجودًا.

  • ما سر التفاصيل في حياتك؟

تركيبة شخصيتي. فأنا امرأة التفاصيل لأنني أحب الجمال والاختلاف، ولا أحب أن أكون نسخة من الآخر، وأشعر أن الإنسان كتلة من التفاصيل: تفاصيل ظاهرة وتفاصيل باطنة. من خلال تفاصيلي يستطيع الإنسان تخمين من أكون. لا أحب الأمر العادي أو المألوف. أحب فن المفاجأة مع أصدقائي وأسعى لإدهاش صديقة ما في عيد ميلادها. سر الحياة هو التفاصيل حيث يكمن الجمال فيها، فعندما أفصل أمرا ما يتبيَّن مدى علاقتي بالجمال. تفاصيلي هي روايتي.