العدد 4772
الأحد 07 نوفمبر 2021
banner
“لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة”
الأحد 07 نوفمبر 2021

عنوان هذا المقال هو حديث منسوب إلى الرسول الأعظم محمد بن عبدالله عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام، وهو حديث يعتقد الكثيرون أنه من دون شك “حديث موضوع” وغير صحيح، ولا يمكن لمقام الرسول الأعظم أن يتفوه بمثل هذا القول الذي يتنافى مع قيم المساواة وعدالة الخالق ومع العقل والمنطق والواقع، ويتعارض مع القرآن الكريم نصا وروحا.
وما حدا بي ودعاني إلى استدعاء واستحضار هذا الحديث المزعوم هو انتهاء ولاية السيدة انجيلا ميركل مستشارة أو رئيسة حكومة ألمانيا التي قادت حزبها، وخاضت وانتصرت في 4 دورات انتخابية متتالية، ودامت ولايتها لمدة 16 عاما، والتي بلغت ألمانيا في عهدها أوج ازدهارها وتفوقها ونموها، وعلى خلاف ما جاء في الحديث المزعوم، فإن الألمان قد أفلحوا عندما ولوا أمرهم امرأة، ولم يفلحوا عندما ولوا أمرهم من قبل رجلا اسمه هتلر.
ويشكك الكثير من المحدثين والمفسرين والمختصين في صحة هذا الحديث الذي وجدوا فيه تناقضا واضحا مع ما ورد في القرآن الكريم من إشادة باقتدار وحكمة وحنكة الملكة بلقيس ملكة سبأ، التي ولاها اليمنيون أمرهم في القرن العاشر قبل الميلاد، فأثبتت قدرتها وكفاءتها وسيطها وجاهها كما جاء في القرآن الكريم: “إني وجدتُ امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم”.
وكانت بلقيس، بحسب ما جاء في القرآن الكريم، ملكة حصيفة سياسيًا وحكيمة وواعية ولم تكن تستبد أو تنفرد في اتخاذ القرارات، فلما تلقت رسالة النبي والملك القوي سليمان استدعت قومها واستعرضت الموقف معهم؛ “قالت يا أيها الملأ إني أُلقي إليَّ كتاب كريم، إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا عليَّ وأتوني مسلمين، قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري، ما كنت قاطعة أمرًا حتى تشهدون” كما جاء في سورة النمل.
ورغم أن قومها أكدوا لها جهوزيتهم العسكرية واستعدادهم للمواجهة والقتال؛ “قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ” إلا أنهم أعربوا لها في الوقت نفسه عن ثقتهم فيها وقالوا: “وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ”
ويستمر القرآن الكريم في استعراض رجاحة عقل الملكة بلقيس وفطنتها السياسية والقيادية عندما حذرت قومها من مغبة الاستخفاف بالإنذار الذي ورد في رسالة سليمان ومن احتمال الهزيمة على يد جيوشه فتصيبهم المذلة والمهانة بعد أن يقتحموا مدنهم ويجعلون من “أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون” فاقترحت استخدام الدبلوماسية وإبداء حسن النية قائلة: “وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بمَ يرجع المرسلون”، إلى آخر هذه الملحمة القرآنية التي اختار الله فيها الملكة بلقيس كنموذج ليسجل في كتابه المقدس، ويؤسس من خلالها لجدارة المرأة ومقدرتها وأهليتها لتحمل وتقلد زمام القيادة والإمامة.
وتأكيدًا لإرادته ومشيئته سبحانه وتعالى، وعلى مسار التاريخ وفي مختلف حقبه ومراحله شهدت الإنسانية تقلد وتبوء سيدات بارزات مواقع الصدارة والقيادة والحكم والرئاسة في مختلف المناطق والمجتمعات وأثبتن كفاءتهن وجدارتهن.
وفي عصرنا الحديث، وإلى جانب السيدة أنجيلا ميركل، ومنذ ما يقارب من 70 عامًا تتربع الملكة اليزابيث الثانية على العرش البريطاني، وإضافة إلى كونها ملكة المملكة المتحدة فإنها الملكة الدستورية لـ 16 دولة من مجموع 53 من دول الكومنولث التي ترأسها.
والملكة اليزابيث الثانية من أطول ملوك العالم جلوسا على العرش، وتمكنت بكل كفاءة واقتدار من الحفاظ على النظام الملكي في بريطانيا الذي كان يتعرض لجملة من التحديات والتهديدات الداخلية والخارجية.
وترأس الملكة اليزابيث أيضًا كنيسة إنجلترا وهو أرفع منصب ديني قيادي في تلك الكنيسة، أي ما يوازي الإمام الأكبر في المصطلح الإسلامي، وهي لذلك تتمتع بلقب “حامي الإيمان” و “حامي العقيدة المسيحية”. ولا يبدو أنها “ناقصة عقل ودين”،
وفي بريطانيا أيضًا تبرز رئيسة الوزراء السيدة مارغريت تاتشر، أول امرأة تولت رئاسة وزراء المملكة المتحدة، وتقلدت هذا المنصب في العام 1979 ولمدة 11 عاما
وهي الأطول في المملكة المتحدة خلال القرن العشرين.
ولثقتها بنفسها وقوة إرادتها وصلابة مواقفها فقد وصفت مارغريت ثاتشر بـ “المرأة الحديدية” التي تمكنت من إنقاذ الاقتصاد البريطاني من الانهيار، وواجهت تعسف النقابات العمالية التي عجز أمامها من سبقها من رؤساء الحكومات وكسرت شوكتها، واتبعت سياسات اقتصادية ليبرالية ورسخت النظام الرأسمالي، ونظرا للتأثير العميق لسياساتها في تاريخ المملكة المتحد فقد سميت بـ “السياسات الثاتشرية”.
وأمام إعجاب ودهشة العالم انتصرت بريطانيا تحت قيادة السيدة ثاتشر في حرب “الفوكلاند” التي خاضتها في العام 1982 ضد الأرجنتين، والتي دارت رحاها لمدة 74 يوما طاحنة وعلى بعد أكثر من 8000 ميل بحري من الحدود البريطانية، بما تعنيه تلك المسافة من صعوبات وعقبات متعلقة بالتموين والدعم والإسناد والإمداد العسكري.
وتبعد جزر الفوكلاند عن الحدود الأرجنتينية بحوالي 400 ميل فقط، لكنها تقع تحت السيادة البريطانية منذ العام 1841، وظلت الأرجنتين منذ ذلك الوقت تصر على تبعية الجزر لها وتطالب باستعادتها بالوسائل السلمية، إلا أن حكومة الجنرال يوبولدو جالتييري العسكرية الديكتاتورية فاجأت بريطانيا والعالم بالإغارة والاستيلاء عليها بالقوة العسكرية؛ فقررت ثاتشر طرد القوات الأرجنتينية من الجزر بالقوة أيضًا وإعادتها إلى السيادة البريطانية رغم ما يكتنف ذلك من مجازفة ومخاطرة، وتمكنت من تحقيق ذلك وانتصرت المرأة الحديدية.
ولا شك في أن العرب والمسلمين عندما يتذكرون بمرارة وحرقة السيدة غولدا مائير يتمنون لو أن هذا الحديث كان صحيحا، فقد أمَّر الإسرائيليون هذه المرأة وانتخبوها رئيسة وزراء لدولتهم في العام 1969 بعد أقل من عامين من انتصار إسرائيل الساحق على 3 دول عربية مجتمعة؛ مصر وسوريا والأردن، وهزمتهم شر هزيمة، ودمرت 80 % من عتادهم الحربي، واحتلت قطاع غزة وسيناء والجولان والضفة الغربية بما في ذلك القدس الشريف؛ كل ذلك حدث في 6 أيام فقط. 
وتعتبر غولدا مائير من بناة ومؤسسي وقادة إسرائيل، وكانت قد أدت مهام دبلوماسية أساسية وحساسة ساهمت في قيام الدولة الصهيونية منها اجتماعها السري مع الملك عبد الله ملك الأردن قبل حرب 1948 بهدف التوصل إلى اتفاق لمنع تلك الحرب.
وبعد قيام إسرائيل عُيّنت غولدا مئير أول سفيرة لبلادها في الاتحاد السوفيتي، ثم انتخبت عضوًا في الكنيست وتولّت منصب وزيرة العمل والتأمين الوطني في العام 1949، بعدها أصبحت وزيرة للداخلية. وقبل انتخابها رئيسة للوزراء شغلت منصب وزيرة للخارجية لـ 10 سنوات متتالية كانت خلالها محاربة صلبة تروج بكل همة ونشاط لقضايا بلدها وتدافع عنها بشراسة وحماس من فوق مختلف المنابر وفي المنظمات والمحافل الدولية على الرغم من عدم عدالة تلك القضايا.
وها هي السيدة حليمة يعقوب امرأة مسلمة ما تزال تتربع على كرسي رئاسة سنغافورة التي تفتقر إلى الموارد الطبيعية، لكنها أصبحت اليوم مركزا إقليميًا للخدمات المالية والمصرفية وصناعة النفط والغاز، وبلغ ناتجها المحلي ما يقارب 500 مليار دولار، وصار معدل دخل الفرد السنوي فيها 100 ألف دولار، وهي اليوم واحدة من أغنى دول العالم وأكثر اقتصاداته تقدما واستقرارا وانفتاحا.
وهناك الراحلة أنديرا غاندي التي كانت رئيسة وزراء أكبر ديمقراطية في العالم، ورئيسة وزراء نيوزيلاندا السيدة جاسيندا أرديرن وغيرهما، والقائمة طويلة تضم سيدات فاضلات أثبتن قدراتهن وكفاءاتهن وأهليتهن لتحمل أكبر المسؤوليات وتقلد أزمَّة القيادة والرئاسة والأمارة، وقد أفلحت الأمم والأقوام التي ولتهم أمرها.
وشكرا لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان للقرار الصادر بإنشاء مجمع للحديث النبوي يهدف لكشف المفاهيم المكذوبة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وإنشاء هيئة للتدقيق في استخدامات الأحاديث النبوية و “القضاء على النصوص الكاذبة والمتطرفة وأي نصوص تتعارض مع تعاليم الإسلام وتبرر ارتكاب الجرائم والقتل وأعمال الإرهاب”، حفظهما الله ورعاهما وسدد على دروب الخير خطاهما.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .