+A
A-

اللبناني رفيق علي أحمد يكتب رسالة اليوم العربي للمسرح

اختارت الهيئة العربية للمسرح الفنان اللبناني رفيق علي أحمد لكتابة  رسالة اليوم العربي للمسرح وإلقائها في العاشر من يناير 2022، والذي يصادف اليوم العربي للمسر ح، وفيما يلي تنشر "البلاد" جزء من الرسالة التي حملت عنوان" الحياة مسرح، المسرح حياة":

اليوم وأكثر من أي وقت مضى تبدو الحاجة ماسة إلى المسرح، ففي زمن التواصل "اللا إنساني" الذي فرضته التكنولوجيا الحديثة، يغدو المسرح مكان اللقاء الإنساني بامتياز، سواء من حيث التفاعل بين العاملين فيه، أو بينهم وبين الجمهور، أو بين الجمهور نفسه حين يخرج من الصالة مزدحماً بالأفكار والأسئلة. وهل أجمل من حرارة التواصل المباشر بين البشر الذين جعلهم الله شعوباً وقبائل ليتعارفوا، أي ليتلاقوا ويتحاورا ويتناقشوا في كل ما يخص حياتهم المشتركة؟

‎وفي زمنٍ جعلته القوى المُهيمِنة زمنَ صراعِ الحضارات، تغدو تلك الحاجة "إلى المسرح" ملحة أكثر، لأن عالمنا يتعرض إلى عملية تدمير ممنهجة من خلال فرض ثقافة وحيدة سائدة تحت شعار عولمة متوحشة، جعلت الكوكب كله بمثابة "سوبر ماركت" هائلاً، والإنسان مجردَ زبون تقاس قيمته بقوته الشرائية لا بقوته الفكرية والإبداعية. وفي ظلّ هذا الواقع الذي تَسَلَّعَ فيه كلُّ شيء، يقف المسرح المنفتح على الفنون جميعها، والقادر على الاستفادة من العلوم جميعها، يقف في خط المواجهة الأمامي، لأنه لا يستطيع أبداً التخلي عن القيم الإنسانية الفكرية والروحية والمعنوية التي تشكّل جوهر وجوده وسرّ استمراره عبر الزمن.

‎ولئن كانت العولمة في معناها الحقيقي لا كما هي سائدة اليوم، تعني انفتاح العالم على بعضه بعضاً، وتفاعل البشر في ما بينهم، وتلاقح الثقافات والأفكار، فإن المسرح يمثل المختبر الأهم لهذا التفاعل بين الأفراد والجماعات، وبين الشعوب على تنوعها واختلافها، وفي معزل عن قوتها العسكرية أو الاقتصادية، بما يحفظ ثرواتها الفكرية والمادية والتراثية، ويشكّل مكان تعارف والتقاء لأجل سلام البشرية القائم على حقّ كل شعب بحفظ أرضه وإنسانه وثقافته وكل ما يميزه عن سواه.

ففي ظلّ تعثر الحوار أو انعدامه بين الأنظمة السياسية والحكومات يبرز دور المفكرين والأدباء والفنانين في تقريب وجهات النظر بين الشعوب والحضارات. وهنا يتجدد الرهان على كون المسرح هو النموذج الأمثل لهذا الحوار انطلاقا من جوهر المسرح نفسه القائم  على الحوار بين الممثلين أنفسهم، وبينهم وبين الجمهور، وقبل ذلك بين المؤلف ونصه والمخرج وعرضه. فاللعبة المسرحية برمّتها ما هي إلّا عبارة عن حوار متعدد الأشكال والاتجاهات، ودائماً في سبيل الإنسان وحقه في حياة أفضل.

نجدد رهاننا على المسرح ودوره ومعناه، ونحن ندرك أن المسرح في العالم كله يعيش أزمة حادة، وهي أزمة تتضاعف في حالة المسرح العربي ،لأنها تأتي ضمن أزمات أعمّ وأشمل في السياسة والاقتصاد والاجتماع. لكن في معزل عن واقع الحال العربي فإن السؤال الدائم الذي نطرحه: متى لم يكن المسرح العربي في أزمة؟

جواباً على هذا السؤال أسمح لنفسي بأن أستعيد التوصيات التي صدرت منذ أكثر من أربعين عاماً عن أول مهرجان مسرحي شاركت فيه في دمشق، وكانت تشدد على تفعيل العمل المسرحي العربي وتطويره على صعيدي الشكل والمضمون مؤكدة على وجوب البحث عن السبل والأساليب لتمتين العلاقة العضوية بين العمل المسرحي والجمهور. من يومها حتى الآن لا شيء تغير، الأزمة نفسها، النقاشات نفسها، التوصيات نفسها وواقع الحال نفسه.

أسباب كثيرة أدت إلى ابتعاد الناس عن المسرح، منها ما يتعلّق بالواقع العام، ومنها ما يخصّ أهل المسرح وصنّاعه، وإذا كانت الأعمال المسرحية مرآة المجتمع فأبناء مجتمعاتنا لا يرون أنفسهم ولا واقعهم في هذه الأعمال. ومن أهم أسباب هذه الغربة هو "التغريب" الذي وقع فيه كثيرون منّا، إذ أن تقليد الأساليب الغربية من قبل بعض المسرحيين تطلعاً "للعالمية" وطمعاً بالجوائز، بات موضة ودليلاً على الحداثة و"العصرنة"، وللأسف فإن الكثير من المهرجانات المسرحية العربية تساهم في تشجيع هذه الظاهرة حيث تمتلئ القاعات بالمسرحيين المشاركين بأعمال يسمونها "نخبوية" في ظل غياب مؤسف للجمهور الذي من أجله وجد المسرح، بل إن بعض “المسرحيين” يذهب في تنظيره الغريب المجحف إلى حد القول إن الجمهور ضد المسرح والمسرح ضد الجمهور

كأن المسرح لا تكفيه التحديات الكثيرة التي تواجهه في عصر الذكاء الاصطناعي حيث تحل الأجهزة الآلية مكان البشر، ويواجه الإبداع الفني تحدي التفاعل مع التكنولوجيا الحديثة، تأتي هجرة جيل كامل من المسرحيين إلى الأعمال التلفزيونية بحثاً عن فرصة عمل ومصدر رزق أو جرياً وراء نجومية تائهة.  هذا الأمر خلق فجوة واسعة بين الأجيال، وأدى إلى فقدان حلقة وصل أساسية بين جيلين: الرواد والشباب، وكما هو معلوم فإن التواصل المباشر بين الأجيال أمر مهم وضروري لا تعوضه النظريات والدروس والكتب مهما بلغت من الجودة والقيمة.