+A
A-

" هدير السراب" .. ثورة فكرية في مسرحنا الخليجي والعربي

حضرت قبل أيام البروفات اليومية لمسرحية "هدير السراب" لمسرح جلجامش للكاتب والناقد المسرحي يوسف الحمدان والمخرج الكوروغراف عبدالله البكري، والتي يعتزم المسرح المشاركة بها ضمن مهرجانات وفعاليات مسرحية محلية وخارجية.

حسب رؤيتي لبروفة العمل، يمكنني القول إن هذه المسرحية ليست إلا الصرخة المنقطعة النظير التي تبعثها عندما نشعر بعجزنا عن مقاومة أظافر العالم التي تنشب في أجسادنا، وكم هو رائع المؤلف الحمدان في تصويره هذا العالم الموبوء من خلال شخصيات وأحداث معتمدا على الرمزية وهي لغة تنتفي منها الدلالة المباشرة وتعتمد أساسا على الموسيقى والإيحاء، ولاشك أن المسرحيات الرمزية عموما تعتبر من أصعب المسرحيات إخراجا، فهي تعتمد اعتمادا كبيرا على الإيقاع والإضاءة لإبراز لحظات الصمت البليغة والظلال الموحية التي تساعد على تجسيد المعاني.

لأول أشاهد مسرحية يتم فيها توظيف التجريب في الموروث، وهذه تعتبر ثورة فكرية في مسرحنا الخليجي والعربي، شخصيات مليئة بالحيوية والتدفق، وقبل كل شيء تتوفر لها مقومات اللغة الجسدية المركزة والفعالة والقادرة على نقل الحدث إلى المتذوق بكامل أبعاده وبكل عمقه، وهذه الثورة التي أحدثها الحمدان سوف يكون لها بكل تأكيد تأثير كبير جدا على طبيعة التمثيل والتأليف المسرحي، ولابد أن نسجل بكل تقدير لمسرح جلجامش هذا الجهد الذي يطلع به في نوع وأسلوب المسرحيات التي تقدم في المملكة.

"هدير السراب"عرض كوروغرافي يطرق أبواب الوجع والتيه بعد أن غادر البحر الجزيرة وتكسرت السفن وتوزعت أخشابها وأشرعتها على اليابسة وصار السراب دليل البحارة الذين اشتد بهم التعب والظمأ وداهمهم اليأس ولجأوا إلى مخيلتهم كي تسعفهم على تخيل البحر الذي غادروه مرغمين لأسباب اقتضتها واستدعتها الحروب والتحولات التي ارتأت ضرورة تجفيف منابع البحر كي ترسو مصالحها الخاصة.

في هذا العرض الجميل يتحول السراب إلى لغة تتجسد في أجساد المؤدين الذين ترافقهم بعض أصوات تحاول أن تشد من أزرهم أو تحاكي وتحاور حالات التعب والتيه التي تهدر كالأمواج في نفوسهم وأجسادهم المنهكة.
هدير السراب.. يابسة تحكي حكاية ملؤها ذاكرة مرهقة مهددة بغربان لا يكف نعيقها عن التهام ما تبقى فيها من أمل لعودة ضوء ولو كان شاحبا إلى مائها الطري اللزج شبه المفقود.

لقد حاول المخرج الكوروغراف عبدالله البكري أن يستثمر فضاء هذا السراب بشتات كل ما فيه من سفن وأجساد وأشرعة ممزقة ليصور لنا عبر تقنية حديثة اعتمدت الضوء والفيديو والموسيقى المؤلفة والسينوغرافيا البصرية، يصور حال مجتمعات البحر قديما وحديثا والتي لم يبق لها سوى السراب ماء تلعقه كلما اشتد بها الظمأ والتعب والغضب والحلم.

شارك في هذا العرض نخبة من الفنانين الشباب الذين خضعوا لتدريب صعب ومركب لما يربو على الثلاثة أشهر متواصلة، وهم عمر السعيدي، ونجم مساعد وكامل نبيل ، وناصر نبيل ، وإيمان سليم ، وليالي عنبر ، وسودابا خليفة، وعبدالرحمن إسماعيل، وقام بأداء الغناء الفنانين راشد العميري وأحمد محفوظ.

قام بتنفيذ السينوغرافيا مهندس الديكور حمد المرباطي بمساعدة الفنانة أميرة صليل، كما تولت دانة الحمدان مهمة تصميم الأزياء والماكياج، وقام بتأليف الموسيقى للعرض الفنان سالم الجراح. أما الرسم على الرمل، فكان من تنفيذ الفنانة زهراء الناصر.

كتب يونيسكو ذات يوم "المسرح عندي إسقاط لعالمي الداخلي، إسقاط لأحلامي وقلقي ورغباتي وتناقضاتي الداخلية. إن عالمي هذا جزء من ميراث الأجداد لكل فرد من البشر نصيبه فيه"، ذلك هو كاتبنا يوسف الحمدان الذي خرج عن الطرق القديمة للتفكير التي لم تعد تناسب احتياجات العصر