+A
A-

"فولتير" شاعرًا وكاتبًا وفيلسوفًا ورائدًا للتنوير

حاتم السرويعندما نتحدث عن "فولتير" يحضرنا أولاً إيمانه العميق بحرية الرأي، ونتذكر على الفور عبارته الشهيرة: "إنني قد أختلف معك في رأيك؛ إلا أنني مستعدٌ للموت دفاعًا عن حريتك في التعبير عنه" ويحضرنا أيضًا دفاعه الحماسي عن الديمقراطية وعن حرية المعتقد، باختصار حيثما ذُكِرَ فولتير ذُكِرَت معه الحرية.

وثمة جانب آخر في مسيرة هذا الشاعر والمثقف العملاق يجدر بنا ألا ننساه، ألا وهو تقديره العميق وإيمانه القوي بالمذهب التجريبي والتفكير العلمي القائم على العقل والحس، والمنطلق من الواقع بعيدًا عن الخرافات والعواطف، وربما ساهمت عقلانيته تلك في تنمية موقفه المتسامح غير العنصري من بقية شعوب العالم غير الأوروبية، فهو يرى أن أوروبا ليست إلا جزءًا يسيرًا من عالمٍ كبير، ومن هنا جاء كتابه "مقال عن عادات وروح الشعوب" الذي أبرزه لنا مؤرخًا على قدرٍ من الوعي والبصيرة، وربما يكون التأريخ الثقافي للشعوب وذكر ما لها من تقاليد وعادات أحد أسباب المتعة التي لمسها القراء وتحدثوا عنها حتى شاع أن هذا الكتاب فيه المتعة والفائدة وهو بالجملة كتابٌ رائع، وربما كان المادحون لهذا الكتاب على حق، لأن "فولتير" لم يكتب عن الحروب والسياسة وما تموج به من دسائس ومؤامرات وما فيها من شرور وآثام، لقد تحدث عن عادات الشعوب وأساليب حياتها، وهو أمر ممتع دون شك.

ورغم أن "فولتير" الآن من المؤلفين القدامى الذين لم يعد يقرأ لهم إلا القليل، وبالطبع فإن أغلب هذا القليل من الذين تفرض عليهم دراستهم الأدبية أن يقرأوا له أو عنه، غير أن فولتير  بأعماله الكثيرة المتنوعة كان في القرن الثامن عشر قبلة القراء ومقصدهم لأنه بالنسبة لهم مصدر المتعة والتثقيف، وعلى أية حال لا نعدو الحقيقة إذا قلنا أن تأثير "فولتير" لا يزال قائمًا حتى اليوم، فلقد كانت أفكاره بحق عنصرًا فاعلًا في حركة التنوير الأوروبية، وفي هذا الإطار لا يقف شاعرنا وحده؛ إذ لم يكن إلا واحدًا من نخبةٍ طليعية خرج منها أمثال: "جان جاك روسو" و"مونتسكيو" و"دلمبير" و"ديديرو" وكان "فولتير" بين هؤلاء الكبار يتميز بعبقريته المتمثلة في غزارة إنتاجه وأسلوبه الجذاب وأفكاره السديدة الملهمة التي شكلت ملامح حركة التنوير في فرنسا وأوروبا كلها في الحقيقة.

وقد حاز "فولتير" قصب السبق والريادة قبل رفقته من رواد التنوير؛ حيث كتب رسائله الشهيرة عن النظام السياسي في "إنجلترا" عام 1734، على حين كتب "مونتسكيو" كتابه الأهم "روح القوانين" سنة 1748، وصنف "ديديرو" موسوعته عام 1750، وظهرت المقالة الأولة لـ "روسو" عام 1755، وكان الفارق بين "فولتير" و"روسو" هو الفارق التقليدي بين رجل العقل ورجل العاطفة، فقد كان "روسو" أقرب إلى "الرومانتيكية" أما فولتير فكان واقعيًا يرجح جانب العقل وينطلق من الواقع على نحو ما أشرنا، ومع أن "فولتير" كان عميق الأثر في النهضة الأوربية الحديثة؛ فإن "روسو" كان أكثر أصالةً في تفكيره؛ إذ كان ينشر آراء غيره من الفلاسفة عادةً ولا يتميز إلا بحسن التعبير عنها، ولهذا يمكن القول أن تأثير "جان جاك روسو" في تاريخ الفلسفة كان أوضح وأهم.

إن تأثير "فولتير" في الفلسفة على قوته كان ثمة ما هو أقوى منه وأعمق، ولهذا سنتكلم عنه هاهنا كاتبًا وشاعرًا وداعية من دعاة التفكير الحر، وهو المولود في "باريس" في العقد الأخير من القرن السابع عشر وبالتحديد عام 1694، واسمه بالكامل: "فرانسوا ماريه أرويه" الشهير باسم "فولتير".

كان "فولتير" أحد أبناء الطبقة المتوسطة؛ حيث عمل أبوه في المحاماة، وفي شبابه التحق بكلية "الجزويت" أو "اليسوعيين" في باريس، ونظرًا لروحه المرحه وحسه الفكاهي وما تميز به من قدرة على السخرية والنقد اللاذع مع البديهة الحاضرة، اكتسب شاعرنا شهرةً واسعة وأحبه كثيرون، ولكن السخرية كما أفادته أوغرت عليه صدور بعض الناس، ولهذا لم يرضَ عنه النظام الحاكم في فرنسا واتهمه بالبذاءة وسلاطة اللسان، وتم اعتقاله في أسوأ السجون على مستوى العالم، إنه "الباستيل" وما أدراك ما هو.

وعلى مدار سنةٍ كاملة هي فترة اعتقاله في "الباستيل" نظم "فولتير" ملحمة شعرية كاملة سماها "هنرياد" وقد نالت شهرة تليق بها فيما بعد، ثم أفرج عنه النظام سنة 1718 وخرجت مسرحيته "أوديب" للنور بعد الإفراج بوقتٍ قليل ولاقت نجاحًا باهرًا، وأصبح الشاب "فولتير" في عِداد أكابر الكتاب والمفكرين فيما عمره لم يتجاوز الرابعة والعشرين، ثم لم تنطفئ شهرته على مدار ستين سنة بعد ذلك، وفي الواقع لم تنطفئ حتى الآن.

   وما يثير الدهشة في حياة "فولتير" أنه لم يكن فقيرًا أبدًا طيلة حياته الأدبية، وهذا بالطبع خلافًا لما هو سائد في عالم الأدباء حتى لقد قيل: "إن المال والقلم لا يجتمعان" على أن "فولتير" كان يعرف كيف يربح المال بقدر معرفته كيف ينتقي الكلمات ويصنع تحفه الأدبية، ولأن لكل إنسان نصيبه من المتاعب، فقد أتته المنغصات والمتاعب من بابٍ آخر غير باب الفقر، حيث كان "لسانه الطويل" وذكاؤه المثير للإعجاب عند البعض والحقد عند آخرين، ومهارته في إقامة الحوار الذي يؤكد شخصيته وينتصر فيه لرأيه، كل هذا جلب عليه المشاكل في بلاده وفي بلاد أوربية أخرى، ثم إذا عرفت أنه مع الأسف لم يكن متواضعًا فيكون من اليسير عليك أن تدرك حجم المتاعب والتحديات التي واجهته، وخاصةً من أبناء الطبقة الأرستقراطية الذين دخل مع أحدهم في حوار "قصف جبهة" جعله في النهاية "مسخرة باريس"! وكانت النتيجة أن عاد "فولتير" إلى السجن، وشفقةً عليه خيروه بين السجن والنفي، فاختار أهونهما وتم نفيه إلى انجلترا مدة سنتين ونصف.

وكان المنتظر أن يركن "فولتير" إلى اليأس ويجتر آلامه ويندب حظه، لكنه منذ اللحظة الأولى التي وطأت فيها قدماه "إنجلترا" شرع في تعلم الإنجليزية، ثم قرأ لكتابها الكبار، مثل "جون لوك" الفيلسوف الكبير، و"فرانسيس بيكون" وهو فيلسوف أيضًا ومن رواد المذهب التجريبي الذي تأثر به "فولتير" والكاتب المسرحي الأشهر "وليام شكسبير" وأبو الفيزياء في العالم "إسحاق نيوتن" وبعد القراءة تعرف كاتبنا شخصيًا على عددٍ كبير من أبناء النخبة المثقفة الإنجليزية، فهل كان هذا نفيًا أم مكافأة؟!.

وبعد أن قضى "فولتير" عقوبته الرائعة في بلاد الإنجليز عاد إلى فرنسا وكتب أول مؤلفاته الكبرى "رسائل فلسفية" وهو الكتاب الصادر عام 1732م، ومؤرخو الفكر يعتبرونه البداية الحقيقة لعصر الأنوار،  وفي هذا الكتاب يعرض لنا "فولتير" أفكار وآراء فلاسفة الإنجليز، كما يعرض النظام السياسي لإنجلترا والذي كان محل إعجابه، ومرةً أخرى تغضب منه السلطات والسبب معروف، لذلك طلبت منه مغادرة باريس، ولكن هذه المرة عاش داخل فرنسا نفسها، وبالتحديد في "سيري" الواقعة شرقي فرنسا، وفيها يمضي خمسة عشر عامًا، ويقع في غرام الماركيزة "مدام دو شاتليه" وهي عالمة رياضيات وفيزياء فرنسية، ومؤلفة من كبار كتاب عصر التنوير، وقد ترجمت إلى الفرنسية كتاب "مبادئ الرياضيات" لإسحاق نيوتن، وتعتبر ترجمتها حتى الآن هي الترجمة القياسية للكتاب في اللغة الفرنسية، في الحقيقة كانت "دو شاتليه" مثقفة جدًا وذكية، ولكنها توفيت، وبعد سنة من وفاتها ذهب "فولتير" إلى ألمانيا بدعوة من إمبراطور "بروسيا" فريدريش الأكبر، وكان الإعجاب بين الشخصيتين متبادلاً إلى أن دب الخلاف بينهما فترك الشاعر والفيلسوف ألمانيا غير آسف.

واتخذ "فولتير" وجهته إلى مزرعة له كانت بالقرب من "جنيف" بسويسرا، حتى يستريح من المتاعب التي لاحقته من قِبل السلطات في فرنسا وبروسيا، غير أن سخريته وآراءه ما لبثت أن هيجت عليه السلطات السويسرية أيضًا ليترك المزرعة ويعيش في قرية حدودية بين فرنسا وسويسرا، والذي دفعه لاختيار هذه القرية الصغيرة هو موقعها حيث يمكنه الهرب إلى فرنسا إذا لاحقته السلطات السويسرية، والهرب إلى سويسرا إذا لاحقته السلطات الفرنسية! وبقي في هذه القرية الوادعة عشرين عامًا يكتب ويسخر ويتأمل؛ ويأتيه ضيوفه فيضحكهم ويسليهم، ويمكن القول أنه لم يحزن وكان بشكلٍ عام رجلاً سعيدًا وموفقًا في حياته.

وعبقرية "فولتير" تجعله محل إكبار واحترام، فقد كتب بيده 30 ألف صفحة ما بين الشعر الغنائي والملحمي والقصص والمقالات، والرسائل والروايات، وله دراسات مهمة أيضًا في التاريخ والفلسفة، وحين وقع الاضطهاد الديني للبروتستانت ندد به ولم يتوقف عن كتابة رسائله الساخرة والعميقة في مواجهة التعصب الديني الذي اعتبره عارًا يجب محوه من أوروبا.

ولما بلغ "فولتير" الثالثة والثمانين من عمره عاد أخيرًا إلى "باريس" وشهد العرض الأول لمسرحيته "إيرين" وحيا المشاهدون رائد التنوير وفيلسوف الحداثة، وكان يتقدمهم المفكر الأمريكي "بنيامين فرانكلين" الذي تأثر به كما تأثر به في أمريكا "جيمس ماديسون" و"توماس جيفرسون".

وجائت وفاة "فولتير" في مدينته "باريس" وتحديدًا في الثلاثين من شهر مايو لسنة 1778م، ولأن علاقته برجال الدين كانت على غير ما يرام رغم إيمانه بالله، لذلك لم يقيموا له صلاة ولا جنازة، لكن بعد وفاته بحوالي ثلاثة عشر عامًا أقام له رجال الثورة الفرنسية جنازة وطنية بعد أن أخرجوا رفاته من قبره، ثم دفنوه في مقبرة العظماء في باريس أو "البانثيون".